وجهات نظر

أحداث "الحراك العربي": أسئلة لا مفكر فيها

مرّ أكثر من عقد على أحداث "الربيع العربي"، إذ استطاعت هاته الثورات لفترة زمنية تغيير التوجهات السياسية في بعض دول المنطقة، لكن الأحداث التي تلتها تسببت في أزمات عقّدت أوضاع الساحة من قبيل انخراط بعض دول المنطقة في الحروب والصراعات كما عاينا مع العديد من النماذج، لكنها فتحت عدة علامات استفهام أيضًا بخصوص تواضع القراءات النظرية لما جرى.

أحداث

قد يعود ذلك بالأساس إلى غياب تشخيص واقعي لما تريده الشعوب في سياقنا العربي، فقد مثلت الثورة مناسبة للانفتاح بشكل مطلق على كل الآمال والانتظارات الممكنة وغير الممكنة، كما لو كنا أمام انفجار شعبي أو انفعالي في وجه أنظمة الساحة العربية، كما لو أن الأمر يُشبه فرصة لتجربة ما لم يكن متاحًا ولا ممكنًا: مطالب عامة تطلب كطوق نجاة ومخرج مضاد لما هو كائن. ألم تكن إذن، هذه الثورات ثورية بما فيه الكفاية لتحقيق تغيير حقيقي؟

إن مفهوم الثورة مفهوم معياري كثيف، يتضمن وصفًا وتقييمًا في الوقت ذاته، كما أشار إلى ذلك الباحث السوري حسام الدين درويش في كتابه "في فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية"، فغالبًا ما يحمل في سياقنا العربي حمولة معيارية إيجابية، الثورة في وعينا هي بوابة أو منفذ لتحقيق كل الانتظارات التي نصبو إليها: حرية، عدالة، تغيير، مساواة، فصل السلطات، تنمية، ديموقراطية.

أفرزت أغلب الثورات العربية صعود الحركات المحافظة، والتي يمكن وصفها بحركات تحمل إيديولوجية دينية، لكنها عملت نوعًا ما على علمنة توجهاتها لتناسب الواقع السياسي الذي تنتمي إليه، ونخصّ هنا بالطبع الحركات التي أبدت مرونة في التعامل مع الواقع السياسي.

كيف نفسّر أنّ الشعوب العربية متعطشة للقيم الديمقراطية وتروم استحضار القيم الدينية في الآن نفسه؟

مؤكد أنها تعلن رفضها للخطاب العلماني وتوجهات السلطة السياسية، لكنها تقبل بعملية الانخراط في الواقع السياسي والخضوع لمنطق الدولة ومؤسساتها، مما يجعلها بالنهاية علمنة تكيف الواقعة الدينية وفق البنيات الحداثية للدولة، بغض النظر عن موقفها من هذه الدولة، بما هي بنية حداثية غربية، وترفض بالمقابل التحالف مع الحركات العلمانية، والعكس صحيح.

قد يُعزي البعض التخبّط الذي ميّز الثورات العربية إلى صعود هذه الحركات، لكن بعض المنطق يقتضي طرح أسئلة غائبة، منها التفكير الجماعي في أن تعبر هذه الحركات على ثقافتنا المجتمعية، وإلا كيف نفسر اندلاع ثورات جديدة على اختيارات الأغلبية؟

ألا يمكن اعتبار نتائج ما جرى منذ عقد في المنطقة العربية أنها ساهمت في توطين ما يُشبه "فوبيا التغيير"؟

من بين الأسئلة أيضًا، كيف نفسّر أنّ الشعوب العربية متعطشة للقيم الديمقراطية وتروم استحضار القيم الدينية في الآن نفسه؟ وما دام أن جلّ هذه الحركات تنطلق من أدبيات أو مرجعيات دينية، وتشرع لمعطى أخلاقي مثالي، فقد قدمت وصفة سحرية لتزاوج كل من البنيات الحداثية التي ترمز لها الدولة والقيم الأخلاقية المستمدة من الدين، كما عكست انتظارات الشعوب التي لا ترغب في العودة لحياة السلف، لكنها بالمقابل تحن للقيم الأخلاقية أو الاجتماعية التي يشرعها الوازع الديني لتحقيق العدالة الإلهية فوق الأرض، إضافة إلى أنها لا تود التفريط في الحياة الحداثية التي تعيش في كنفها وترغب بالحصول على المزيد. قد يعزى فشل هذه الحركات لتوجهاتها المزدوجة، وكذا ترصد السلطة السياسية لهفواتها لاتخاذه ذريعة للإطاحة بها.

ألا يمكن اعتبار نتائج ما جرى منذ عقد في المنطقة العربية أنها ساهمت في توطين ما يُشبه "فوبيا التغيير" الذي قد يحمل حركات محافظة لسدة الحكم، مما يُهدد بسحب الآمال الحداثية في التغيير بشكل كامل، الأمر الذي يعمل بالمقابل على تغذية التطرف والتشدد، ويخندق مفهوم الديمقراطية بسياج الانتقائية السياسية، كما أنه أدخل الوضع العربي في معارك وهمية تفقده القدرة على تبني مشروع نهضوي يعكس احتياجات واقعه بشكل فعلي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن