مراجعات

لماذا نحن كافكاويون؟مونيكا زغوستوفا - باحثة تشيكية

تعريب: منعم دائخة – ليبيا

المشاركة

هذا النص هو ترجمة لمقال للكاتبة مونيكا زغوستوفا، وهي كاتبة ومترجمة تشيكية حائزة على عدة جوائز أدبية، ونُشرت أعمالها بعشر لغات. ولدت في براغ ودرست الأدب المقارن في جامعتي إلينوي وشيكاغو. انتقلت بعد ذلك إلى برشلونة، حيث تكتب في عدّة صحف مرموقة، بالإضافة إلى عملها كمترجمة للأدب التشيكي والروسي إلى الإسبانية والكتالونية، بما في ذلك كتابات هافيل، وكونديرا، وهرابال، وهاشيك، ودوستويفسكي، وأخماتوفا، وتسفيتايفا، وبابل. ويُنسب إلى زغوستوفا التعريف بكبار كتاب القرن العشرين داخل إسبانيا. صدر المقال في صحيفة "إلبايس" الإسبانية.

لماذا نحن كافكاويون؟
مونيكا زغوستوفا - باحثة تشيكية

في عالم اليوم، يتم التحكّم في تحرّكات الناس عبر التطبيقات، تمامًا كما كان المسؤولون في "المحاكمة" يتحكّمون في مواعيد بطل الرواية وعاداته. سيكون عام 2024، موعدًا لإحياء الذكرى المئوية للمؤلف التشيكي المستنير.

في نهاية الثمانينات، وعلى زمن الشيوعية، بينما كنتُ في زيارة لبراغ، أهداني أحد الأصدقاء رواية "القلعة" لفرانز كافكا باللغة التشيكية. لقد كانت طبعة من الستينيات - العقد الذي أدّى إلى ربيع براغ - حين سمح بنشر وقراءة كافكا، ولو لفترة قصيرة. بعد الغزو الروسي عام 1968، منع النظام الجديد الموالي للسوفييت في تشيكوسلوفاكيا الكاتب من دخول براغ مرة أخرى؛ لأنّ كافكا تناول في عمله بوضوح ودقة وظيفة التعسّف، وهي إحدى خصائص الشمولية.

حين انتهت إقامتي في المدينة، وبينما كنت أقود سيارتي باتجاه الحدود، قبل أن أصل إلى مراقبة الجوازات، تذكّرتُ الكتاب المحظور الذي تركتُه بجانبي دون مبالاة.

أوقفت السيارة على جانب الطريق لأخفي القلعة أسفل حقيبتي. ولكن، كما هو الحال في روايات كافكا، كانت بعض العيون الساهرة تترصدني، وحين وصلت إلى نقطة التفتيش، طلب مني ضابط شرطة أن أفتح الحقيبة. وبإيماءة واثقة انتزع الكتاب من الحقيبة، أجبرني في الجمارك على تحقيق قاس.

في الزمن المعاصر تترصّدنا أعين الكاميرات في مترو الأنفاق والشوارع وتشير عيون الهواتف المحمولة إلينا في كل مكان

يمكن تعريف ثقافة أوروبا الوسطى في بدايات القرن العشرين بأنّها الفرار من العقلانية والنظام الذي فرضته دولة عظيمة - الإمبراطورية النمساوية المجرية - من السيطرة التي مارستها البيروقراطية على الفرد، وكذلك من المركزية القائمة على محاولة توحيد المجموعات العرقية العديدة والمتنوعة، نحو الفضاء البشري الحميم.

تنبّأ كافكا بهذا التوجّه من قبل، وحلّله في عمله قبل أن يتخذ بُعده الوحشي على شكل الشمولية والأيديولوجيات القمعية والحروب العالمية، ولهذا السبب فإنّ أعمال كافكا تنبّؤية.

شهد كافكا في حياته الحرب العالمية الأولى، التي أدّت نهايتها إلى انهيار الإمبراطورية النمساوية المجرية وإنشاء دول صغيرة مثل تشيكوسلوفاكيا. بدأ في كتبه من المواقف الحميمة التي مرّ بها: في المحاكمة، حول علاقته المعقّدة مع سيدة الأعمال فيليس باور والمحاكمة التي فوجئت بها من عائلته، وفي القلعة، عن شغفه بالصحفية ميلينا جيسينسكا، التي تناول فيها صورًا عن زوجها، سيد القلعة؛ أمّا في "التحول" ("المسخ") للعلاقة المعقّدة مع أبيه.

إلّا أنّه عالج كل هذه المواقف علاجًا مجازيًا جعلها تتجاوز بكثير الحقائق الحميمة إلى درجة منحها بُعدًا عالميًا وتمييزها عن الاتجاه الاجتماعي والسياسي لا في القرن العشرين فحسب - والذي لم يكد يصل إلى الربع الأول حين رحل الكاتب عام 1924 في مصحة في فيينا عن عمر ناهز 41 عامًا - بل بعد قرنه.

ومع هذا، فإنّ النقاد والمفكرين الذين شاركوا كافكا في القرن العشرين لم يفهموا فورًا عمله الغامض، فقد تناولوا عوالمه "الرائعة"، و"السريالية" حتى فُرض واقع جديد: الحرب العالمية الثانية. ثم تحدث من كانوا يبحثون عن الوثائق المطلوبة في مرسيليا ولشبونة للفرار من أوروبا، عن المحاكمة باعتبارها عملًا تنبؤيًا، وبمجرّد صعودهم على متن السفن العابرة للمحيطات، تذكروا أميركا. شيئًا فشيئًا، أدخلت مصطلحات إلى معظم اللغات الغربية: كافكيانو، كافكايين، كافكاويسك. وصارت المحاكمة رمزًا لعجز الفرد تحت رحمة أجهزة الدولة. وكما جرت العادة في كل أعمال كافكا، النوافذ عيون لا تُغلق بتاتًا وترى أي شيء.

في مطلع الرواية يراقب زوجان مسنّان من النافذة رجلين يدخلان غرفة المنزل المقابل، حيث يعتقلان "ك"، بطل الكتاب، ولكن ليس قبل التهام وجبة الإفطار. وفي ختام الراوية، وقبل دقائق من إعدام "ك"، في المقلع تفتح النافذة ويظهر فيها رجل يلقي نظرة إلى الخارج ليعرف "ك" أنّ هذا الرجل سيكون شاهدًا على إهانته. وهكذا هو الحال: يشاهد الرجل الموجود في النافذة أحد الحارسين يضغط على بلعومه، بينما الآخر يطعن قلبه بالسكين. حين يموت، يشعر "ك" بـ"العار الذي سيعيش بعده".

إذا كانت المراقبة في عالم كافكا تعني أنّ شخصًا ما يشاهد عارك وإهانتك، ففي عصرنا الحالي، كان الأشخاص الموجودون في النافذة بالإضافة إلى المراقبة يلتقطون مقطع فيديو بهواتفهم المحمولة وينشرونه على يوتيوب وإنستغرام حتى يتمكن الملايين من مشاهدة إهانة الإنسان.

الشخصيات الكافكوية الماقتة للبشر والمنطوية على نفسها تُذكّرنا بالمجتمع المعاصر المصاب بالتوحّد بشكل متزايد

وإذا أشار كافكا إلى مدى تخويف نظرات الآخرين والسعي قدر الممكن إلى الخصوصية، ففي الزمن المعاصر، تترصّدنا أعين الكاميرات في محلات السوير ماركت، وفي مترو الأنفاق وعلى الطرق السريعة وفي الشوارع، عيون الهواتف المحمولة تشير إلينا في كل مكان، في المطارات ثمّة نظام تحكم عبر بصمات الأصابع، وهو ما يجعلنا الجناة المحتملين، وكما جرت العادة في عالمنا حيث يتحكّم في الحركات عبر التطبيقات، فقد كان مسؤولو المحاكمة يسيطرون على مواعيد "ك"، وعاداته التي تمكنوا من ضبطها دون أدنى مشكلة.

ما أشار إليه كافكا ذات مرة أنّه رعب، صار في عصرنا مبثوثًا في كل مكان. كافكا صوّر عصرنا المتوتر والعبثي الذي لا يقتصر فيه الرعب على الفراغ فحسب، بل على نمط المجتمع الذي يدفع الناس إلى القيام بعدة أنشطة في الوقت نفسه، كسائق سيارة الأجرة الذي أخذني من المطار إلى المنزل بينما أتحدث عبر هاتفين في آن واحد، إلى جانب الاستماع إلى الراديو واتباع تعليماتي في القيادة.

تُذكّرنا الشخصيات الكافكوية الماقتة للبشر والمنطوية على نفسها، بالمجتمع المعاصر المصاب بالتوحّد بشكل متزايد والذي يقضي وقتًا أطول في النظر إلى شاشات الهواتف المحمولة بدلًا من التحدث إلى أناس حقيقيين. حتى الاسم الأخير للشخصية المحورية في "التحول" سامسا، اسم مستنسخ من اللغة التشيكية "أنا وحيد".

في الرسالة إلى الأب، سلسلة توبيخ يوجّهها الابن إلى الأب بالعلاقات المعقّدة بين الوالدين والأبناء في عالم اليوم، حيث يصير الفرد أكثر عزلة في عالم التعاسة الكونية: الكافكاوية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن