ثقافة

مالك بن نبي.. والقراءة الذكية والمُطَبَّقة

لا خِلاف في صرف القول نحو الإقرار بأنّ طبيعة القراءة ومصادرها ومنهجية البناء الفكري والعلمي، هي التي ترسم إلى حد واسع أفق المشروع وحدود الإدراك، كما تُعيّن خطوات الإصلاح وآفاق التَّغيير، لذا، فإنَّ سؤال المنهج في القراءة، هو السُّؤال اللافت في المشاريع الثقافية، فمن القراءة وحروفها، يكون البناء الجديد وخصوصيته.

مالك بن نبي.. والقراءة الذكية والمُطَبَّقة

أعتقد أنَّ "مالك بن نبي" لم يكن قارئًا يحمل توجيهًا قَبليًا إلى أركان أو زوايا معيَّنة، بل إنَّه، فضلًا عن انفتاحه المزدوج على الفكر العربي والفكر الغربي، كان يقوم بتنزيل الأفكار ضمن جهازه التَّحليلي وسِياقه الإصلاحي، فليست الحُروف هي التي تقوده إلى قضاياها، بل إنَّه، هو من يأتي بالحروف أو النّصوص إلى طبيعة مشكلاته التي يعانيها ويرغب في الخروج من مضائقها؛ وبهذا، كانت النُّصوص تعرف مكانتها وموقعها في مشروعه.

وهذا هو قصدنا بالقراءة الذكية والمُطَبَّقة، إنها ذكية؛ لأنَّها تأخذ من النُّصوص أهم ما فيها، ومُطَبَّقة؛ لأنها تُسْكِنُ السِّياق الحضاري ولا تتعالى عليه. لأجل ذلك كانت نصوصًا مُكَثقة وقوية، تحضر في متن وهامش المقالة الحضارية، وتتناسق مع التَّكوين العلمي التقني الخاص بمالك بن نبي، كما أنّ ثمة لفتة منهجية من الجدير التنويه بها، تتعلَّق بعدم الإشارة إلى الخصومات الفلسفية أو الفكرية التي كانت في التاريخ، والتي هي من صَميم اهتمامات الأبحاث الأكاديمية، مثل النقاش الذي حدث بين التَّهافٌتين: تهافت الفلاسفة لأبي حامد الغزالي وتهافت التَّهافت لأبن رشد، فلم يكن هذا النقاش يعني مالك بن نبي، فهو من شأن التّحقيق العلمي، كان مهمومًا بكيفية إيجاد فكر كليهما ضمن نسق التحديات الحضارية؛ وكذا الأمر مع الفارابي وابن خلدون وابن طفيل، هذا الأخير، أي ابن طفيل، في رائعته حي بن يقظان، قدَّمها كشاهد أمثل على خُصوصية الثقافة الإسلامية، وقد طبَّق قاعدة الاستدلال بالتَّقابل، عندما قابل رواية ابن طفيل برواية روبنسون كروز لدانيال ديفو، كاشفًا عن الرؤية إلى العالم الكامنة لدى كليهما؛ مستخرجًا منها فكرتين هامتين هما: هناك حضارة ذات جذور غيبية أخلاقية والحضارة الإسلامية هي مثالها، وهناك حضارة ذات جذور مادية وتقنية والحضارة الغربية هي مثالها.

قراءتنا تفتقد للذكاء وللتَّطبيق، فإمَّا نبتلع النصوص التراثية والغربية من غير وعي نقدي وإما نقابلها بالإعراض

إنها منهجية جليلة القدر في كيفية القراءة، وكذا الشَّأنُ عندما انفتح قارئًا لنصوص روني ديكارت وكوندياك وجون ديوي وكانط والشاعر بوالو وتولستوي وغيرهم، فقواعد الوضوح والتَّحليل والتركيب والإحصاء التي بثّها ديكارت في خطابه الشَّهير عن المنهج، كان اهتمام "مالك بن نبي" بها مُطَبَّقًا وليس مجرّدًا؛ وفكرة الواجب عند كانط حرّرها من طابعها النِّقاشي التاريخي حول أساس القيمة الأخلاقية، ودفع بها نحو منطلقات الحضارة، فالواجب يعادل المبادرة والمبادأة والاقتدار، وإنسان الواجب هو إنسان الحضارة، بينما إنسان الحقوق هو الإنسان العاطل عن الفعل، الفاقد للقدرة على النُّهوض والتَّجديد.

حتىَّ الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه الذي اشتهر بمناهضته للأديان وازدراء القيم الأخلاقية مثل المساواة والتَّسامح والعدالة، وجد في نصوصه ما يعين على تحريك الإرادة وإبداع الذَّات من جديد، فالمسلم حامل الرسالة شبيه بزرادشت الذي نزل من عزلته الجبلية حاملًا معه وبكل رغبة مشروعًا جديدًا من الإنسان إلى الإنسان المتفوّق. والسياق أيضًا مع علم النَّفس التحليلي لدى سيجموند فرويد؛ فاللاشعور الذي هو خِزَّان الرَّغبات اللاواعية وفي مقدمتها الرّغبة الجنسية، وتحريره هو الطريق إلى الصِّحة النفسية كما جاء في معجم التَّحليل النّفسي، استطاع بن نبي أن يرسم له دورًا آخر، خارج دور المعنى التحرري، فاليقظة الرُّوحية، هي التي تُكبِتُ أو توقِفُ مطالب الطَّاقة الحيوية ودوافعها مثل: الدَّافع الجنسي والغذائي والتملكي، باعتبارها، أي هذا الكبت وهذا الإيقاف؛ هو الشّرط الأوَّلى لاستعادة الدَّور الاجتماعي للفرد والدَّور التَّاريخي للمجتمع، فالكبت أضحى هو إسكات صوت الغريزة كي تتنفّس الروح وتنطلق.

وإذ تبيّن هذا، فإنّه يمكن صرف القول، إلى أنَّ هذه المنهجية في القراءة الذكية والمُطَبَّقة، قد أفلحت في إنارة بعض من الوعي بمشكلات العالم الإسلامي، وتَفَتُّحْ العقل على أدوات المعرفة الإنسانية بعد تحريرها من خصوصيتها التَّحليلية والسياقية، والاجتهاد لأجل إيجاد مكانة لها في سلم الحاجات الحضارية، ونحن اليوم في امتساس الحاجة إلى هذا الأسلوب في القراءة، فقراءتنا لا شك أنّها تفتقد للذكاء وللتَّطبيق، فإمَّا أنَّنا نبتلع النصوص التراثية والغربية من غير وعي نقدي توظيفي، وإما نقابلها بالإعراض، وحجة التراثي أنها علمانية، وحجة العلماني أنّها تراثية.

القراءة حضاريًا ترغب في الاستفادة من الأفكار والعلوم والآداب بغرض تحسين الواقع والارتفاع به

لذا، فإننا وكي نفلح في زراعة المعرفة في العقول، لا بد من أن نشحذ العقول بالذكاء والتَّطبيق، فالقوة ليست في القراءة فقط، إنما في إحسان توظيفها ضمن الجهاز الفكري حاليًا، وليس شرطًا أن نقرأ ما قرأ "مالك بن نبي" من نصوص تراثية أم غربية، بل يجب أن نفتتح دروبًا أخرى في القراءة، ونقرأ من عمق الفلسفة والعلوم الاجتماعية والرموز الأدبية الخيالية، ثم نقوم بفحصها وتَبَيُّن صلاحيتها، انطلاقًا من الإشكالات التي يمور بها واقعنا. وهذا هو سر الصناعة المعرفية والفكرية الفعاَّلة، فضلًا عن تحرير قراءتنا من الجِداليات الأكاديمية، فالقراءة أكاديميًا شيء، والقراءة حضاريًا شيء آخر، الأولى معرفية علمية مؤسَّساتية، والثانية فكرية ترغب في الاستفادة من الأفكار والعلوم والآداب، بغرض تحسين الواقع والارتفاع به إلى المستوى الأجْوَد.

كما يجب أن نلتفت إلى طريقة استطاع من خلالها "مالك بن نبي" أن يكسب جمهورًا من القُرّاء خارج دائرة التخصُّصات الإنسانية، وهي الاستعارات البيولوجية والفيزائية التي كان يستعملها لأجل تقريب المعاني وإظهار الأفكار، فالعلم كما يقال: بالدّليل يقوى وبالمثال يظهر، والتَّمثيل من أطرف الجوانب التي برع فيها بن نبي، من التمثيل الأسطوري، إلى التَّمثيل من عوالم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، وسِرُّ هذه القدرة، إنما هو في وجود مشروع ورؤية لأجل الإصلاح والتَّغيير، ولذلك كانت القراءة ذكية ومُطَبَّقة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن