منذ مشروع الموازنة العامة للدولة للعام 2017/2018 ابتدعت الحكومة نمطًا جديدًا من الإلتفاف على الدستور لم يسبق أن تعرّض له الشعب في مصر ولم يسبق لأي وزير مالية أن جرؤ على القيام به من قبل لأنه لا يمت لعلم المالية العامة بصلة. والأمر ببساطة أنّ الدستور يُلزم الحكومة بتخصيص 6% من الناتج القومي الإجمالي على الأقل للإنفاق على التعليم الجامعي وقبل الجامعي، ويُلزمها أيضًا بإنفاق 3% على الأقل من ذلك الناتج على الصحة، ويُلزمها بإنفاق 1% على الأقل على البحث العلمي.
وحصلت الحكومة على فترة سماح مدتها 3 أعوام للوصول إلى تلك النسب انتهت مع نهاية العام المالي 2016/2017، وبالتالي كانت مُلزمة دستوريًا بأن تنفذ ما جاء بالدستور بشأن نسب الإنفاق العام على الصحة والتعليم والبحث العلمي في الموازنة العامة للدولة بداية من العام المالي 2017/2018 وإلا تم إسقاطها بأي دعوى قضائية لمخالفتها الدستور.
وصلت الوزارة بقيمة "الإنفاق" على الصحة والتعليم إلى النسب الدستورية بصورة مخالفة للقواعد والأعراف والقوانين
ولأنها لا تريد ذلك ولا تضع التعليم والصحة والبحث العلمي في المكان الملائم في جدول أولوياتها، قامت وزارة المالية بوضع الإنفاق على خدمات مياه الشرب والصرف الصحي وهو إنفاق على المرافق العامة، ضمن الإنفاق العام على الصحة!! كما أدرجت حصة من فوائد خدمة الدين العام ضمن الإنفاق العام على الصحة. وفعلت الأمر نفسه مع الإنفاق العام على التعليم بإدراج حصة من فوائد خدمة الدين العام ضمن الإنفاق عليه، وهو ما لم يحدث في تاريخ الموازنة العامة للدولة من قبل.
وبتلك الحسابات البعيدة عن العلم وعن قواعد وضع الموازنة، وصلت الوزارة بقيمة "الإنفاق" العام على الصحة والتعليم إلى النسب الدستورية بصورة مخالفة للقواعد والأعراف والقوانين السابقة للموازنة العامة للدولة!!
تدني الإنفاق العام على الصحة وضرورة الوفاء بالنسبة الدستورية
وفقًا لبيانات وزارة المالية في مشروع الموازنة العامة للدولة للعام 2023/2024 (صـ 92، و 123) بلغ الإنفاق العام الحقيقي على الصحة نحو 87,1، 107,4، 135,6، 128,1 مليار جنيه تعادل بالترتيب نحو 1,4%، 1,6%، 1,7%، 1,3% من الناتج المحلي الإجمالي في الأعوام المالية 2019/2020، 2020/2021، 2021/2022، 2022/2023 على التوالي. ورغم أنّ تلك السنوات هي التي شهدت وباء كورونا أو كوفيد 19، إلا أنّ الإنفاق العام على الصحة يقبع في مستوى متدني للغاية، وهو يقل عن المعدل الملزم للحكومة الوارد في الدستور والبالغ 3% من الناتج القومي الإجمالي. وفي العام المالي 2023/2024 خصص مشروع الموازنة العامة للدولة نحو 147,9 مليار جنيه للإنفاق العام على الصحة بما يعادل نحو 1,3% فقط من الناتج المحلي الإجمالي المقدّر للعام المالي المذكور.
وكما جرت العادة منذ العام المالي 2017/2018 أضافت الحكومة الإنفاق على خدمات مياه الشرب والصرف، وهو إنفاق على المرافق العامة، ضمن الإنفاق العام على الصحة. كما أدرجت حصة من فوائد خدمة الدين العام ضمن الإنفاق العام على الصحة لتصل برقم الإنفاق العام على الصحة إلى المستوى المُلزم للحكومة وفقًا للدستور، وهو احتيال غير بريء وغير علمي ولا نظير له في العالم. (المتوسط العالمي للإنفاق العام على الصحة يبلغ 6% في الأوقات العادية وأعلى من ذلك بكثير في زمن الوباء).
وكان الإنفاق العام على الصحة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي قد بلغ 1,5% عامي 2013/2014 و 2014/2015، ونحو 1,6% عامي 2015/2016 و 2016/ 2017. ونحو 1,4% عامي 2017/2018 و 2018/2019. وهناك ضرورة قصوى لتعديل الأولويات الحكومية لفرض التزام الحكومة بالنسبة الدستورية للإنفاق العام على الصحة لحماية صحة الشعب وتحسين قدرة العاملين على العمل والإنتاج.
الإنفاق على التعليم وتحسين جودته بوابة رئيسية للنهوض والمستقبل
بلغت مخصصات الإنفاق العام على التعليم نحو 229,9 مليار جنيه في موازنة عام 2023/2024 بما يعادل مجرد 1,9% من الناتج المحلي في العام المالي المذكور والبالغ 11841 مليار جنيه. وهو واحد من أدنى مستويات الإنفاق العام على التعليم على الإطلاق، ويشكل مخالفة صريحة للدستور الذي يُلزم الحكومة بتخصيص 6% من الناتج القومي للإنفاق العام على التعليم الجامعي وقبل الجامعي.
تراجع الإنفاق العام على التعليم يعكس تراجع قيمة التعليم لدى الحكومة بصورة تدفع مصر للخلف
وقد بلغ الإنفاق العام على التعليم نحو 92,3، 97,3، 103,7، 109,2، 123، 145,2، 158,3، 193,7، 192,7 مليار جنيه، في الأعوام المالية 2014/2015، 2015/2016، 2016/2017، 2017/2018، 2018/2019، 2019/2020، 2020/2021، 2021/2022، 2022/2023 على التوالي، بما يعادل 3,8%، 3,6%، 3%، 2,5%، 2,3%، 2,3%، 2,3%، 2,5%، 2% من الناتج المحلي الإجمالي في الأعوام المالية المذكورة بالترتيب. وكما هو واضح فإنّ معدلات الإنفاق العام على التعليم في تلك الموازنات العامة لا علاقة لها بالنسبة الدستورية المحددة بـ6% من الناتج القومي الإجمالي.
وكان الإنفاق العام على التعليم قد بلغ نحو 84,1 مليار جنيه تعادل 4% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي 2013/2014.
ويمكن القول باختصار إنّ الحكومة تتراجع بالإنفاق العام على التعليم بما يعكس تراجع قيمة التعليم لدى الحكومة بصورة تدفع مصر للخلف. وتغطي الحكومة ذلك التراجع المخالف للدستور في الإنفاق العام على التعليم كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بصورة لا علاقة لها بتقاليد الموازنة العامة للدولة أو بعلم المالية العامة في مصر والعالم عمومًا.
وكان تدني الإنفاق العام على التعليم والصحة منذ عهد مبارك، قد جاء في إطار إفساح الحكومة المجال أمام سيطرة القطاع الخاص على "بيزنيس" التعليم والصحة في مصر. وذلك بعد أن تم تكريس صيغة رديئة للتعامل مع قطاعي التعليم والصحة بهذه الصورة، بدلًا من اعتبارهما عنصرًا أساسيًا للتنمية البشرية لتنمية المعارف والقدرات العلمية في كل المجالات ولتحقيق التنوير والتحضر الاجتماعي والإنساني، ولإكساب خريجي النظام التعليمي مهارات الحياة وتأهيلهم لسوق العمل، وللحفاظ على الصحة العامة واحترام حق الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى في الحصول على الرعاية الصحية والتعليمية الجيدة سواء كان ذلك بالمجان أو بقيم رمزية.
لكن ما تقوم به الحكومة الحالية في هذا الشأن يتجاوز كل ما فعلته الحكومات السابقة. وهذان البندان المتعلقان بالإنفاق العالم على الصحة والتعليم كانا كفيلين برفض الموازنة لالتفافها على الدستور، لكن مجلس النواب أقرّها متوافقًا مع الحكومة فيما فعلته!
ورغم صعوبة الظروف الاقتصادية الموروثة من عهد مبارك والتي تفاقمت بعده، إلا أنّ ترتيب الأولويات ينبغي أن يتم تغييره لصالح تعزيز الإنفاق العام على الصحة والتعليم كإحدى آليات تحقيق العدالة الاجتماعية من جهة، وكبوابة للنهوض برفع مستوى تعليم وصحة الشعب من جهة أخرى.
تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد ضرورة لحماية المال العام وتحقيق التنمية
إضافة لكل ما سبق فإنّ ملف الفساد في إدارة المال العام والذي نتج عنه العديد من القضايا يحتاج بدوره للمعالجة من خلال إحكام الرقابة على التصرفات في المال العام قانونيًا وعمليًا. وعلى سبيل المثال هناك ضرورة لإلغاء القانون رقم 32 لعام 2014 والذي يقضي بتحصين العقود العامة من دعاوى البطلان من غير طرفيها، لأنه قانون يغطي على الفساد المحتمل ويحميه ويمنع الشعب وممثليه المنتخبين من التصدي لحماية المال العام. كما يتطلب الأمر إلغاء القانون 182 لعام 2018 الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الإسناد المباشر للأعمال العامة وهو بوابة جهنم للفساد، والعودة للقانون 89 لعام 1998 الذي يقيّد ذلك الإسناد في أضيق الحدود.
السياسات التي خلقت المشاكل لا يمكن أن تكون هي الملائمة لمعالجتها
كما يتطلّب إجراء تعديل جوهري في المناقصات والمزايدات العامة بحيث يتم تقديم العروض وفض المظاريف في جلسة واحدة دون فاصل زمني بينهما بما يحول دون أي تلاعب لصالح العملاء المميّزين الذين يقدّمون الرشى لبعض الموظفين الفاسدين. وهناك ضرورة أيضًا لتغيير قانون الإدارة المحلية لمنع أعضاء المجالس المحلية وأقاربهم من الدرجة الأولى من إبرام أي عقود أو صفقات مع الإدارة المحلية بدون أي استثناء من قبيل "في حالة وجود مصلحة محققة" لأنه مبرر فاسد ويمكن التلاعب فيه بشتى الصور. وتلك مجرد أمثلة من الكثير الذي ينبغي فعله لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد.
باختصار، هناك ملفات اقتصادية شديدة الصعوبة تنتظر الرئيس الجديد-القديم، وتحتاج معالجتها لتغييرات جوهرية في السياسات الاقتصادية، فالسياسات التي خلقت المشاكل، لا يمكن أن تكون هي الملائمة لمعالجتها!
لقراءة الجزء الأول: الرئيس الجديد - القديم.. وسُبُل معالجة المشكلات الاقتصادية المصرية (2/1)
(خاص "عروبة 22")