تقدير موقف

الرئيس الجديد - القديم.. وسُبُل معالجة المشكلات الاقتصادية المصرية (2/1)

تُعتبر الملفات الاقتصادية التي ينبغي أن يعالجها الرئيس المصري الجديد-القديم هي الأهم بالنسبة للناس حيث تمسّ حياتهم ومستويات معيشتهم، وهي الأهم أيضًا للنظام السياسي، حيث تُشكّل معالجة المعضلات الاقتصادية محددًا أساسيًا للاستقرار السياسي الذي ينشده النظام. كما أنّ الأمّة بأسرها تحتاج لذلك الاستقرار شرط أن ينهض على التراضي والعدل وليس على التسلّط والتحكّم. ويمكن رصد بعض هذه المعضلات الاقتصادية ونماذج للمسارات التي يمكن معالجة البعض منها من خلالها.

الرئيس الجديد - القديم.. وسُبُل معالجة المشكلات الاقتصادية المصرية (2/1)

تفاقمت الديون الخارجية المستحقة على مصر بسبب العجز في الموازين الخارجية وبالأساس الميزان التجاري الذي تتطلب معالجته، ترشيد الإنفاق الحكومي بشكل عام وبخاصة ذلك المرتبط باستيراد السلع والمكونات والخدمات من الخارج. كما تتطلب تركيز الاستثمارات على قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعة التحويلية والصناعات عالية التقنية لتحقيق الإحلال محل الواردات والتصدير، بدلًا من التركيز الراهن على البنية الأساسية وتحديدًا على الطرق والكباري والأنفاق بصورة مبالغ فيها وتتجاوز طاقة وحاجة الاقتصاد. وقد بلغت قيمة تلك الديون 164,7 مليار دولار في يونيو 2023، مقارنةً بقيمتها البالغة 46,1 مليار دولار عند استلام الرئيس الجديد-القديم للحكم أوّل مرّة في منتصف عام 2014، أي أنها زادت بنسبة 257% في فترة حكمه.

لقد تم استسهال الاقتراض لتمويل مشروعات للبنية الأساسية غير المنتجة بتشجيع من صندوق النقد الدولي الخادم للرأسمالية العالمية والذي يتفنن في إيقاع الدول النامية في فخ المديونية وما يترتب عليها من تبعية اقتصادية وسياسية. 

الديون الخارجية

استهلكت خدمة الديون الخارجية 34,3% من حصيلة صادرات السلع والخدمات في العام المالي 2022/2023. وبما أنّ تلك الحصيلة بلغت نحو 74,2 مليار دولار، فإنّ ذلك يعني أنّ خدمة الديون الخارجية كلّفت مصر نحو 25,5 مليار دولار في العام المالي المذكور، مقارنةً بنحو 3,2 مليار دولار في العام المالي 2013/2014 قبل تولي الرئيس منصب الرئاسة لأوّل مرّة.

أعادت الحكومة المصرية إنتاج أسوا سياسات عصر مبارك

ونظرًا للزيادة الكبيرة في الديون الخارجية قصيرة الأجل من نحو 3,3 مليار دولار عام 2014 في بداية حكم الرئيس السيسي، إلى نحو 30,3 مليار دولار عام 2022 وفقًا لتقرير الديون العالمي الصادر عن البنك الدولي، فإنّ مدفوعات خدمة الديون الخارجية وما تقتطعه من حصيلة صادرات السلع والخدمات سوف تتزايد بصورة تنذر بعدم القدرة على السداد إلا من خلال الاستدانة مجددًا لمجرد خدمة الديون السابقة، وهي دائرة جهنمية يمكن أن تقود لأزمة كبيرة تصل للعجز عن السداد كليًا، إذا لم تتم معالجة مسببات العجز في الموازين الخارجية وما يترتب عليها من استدانة من الخارج.  

ونتيجة لتلك الديون والعجز عن سداد البعض منها في مواعيد استحقاق السداد، لجأت الحكومة المصرية إلى إعادة إنتاج أسوا سياسات عصر مبارك وهي سياسة الخصخصة من خلال بيع بعض من أهم الأصول وحصص المال العام في بعض الشركات للدول الدائنة وبأسعار بالغة التدني مقارنةً بمعامل الاسترداد أو مضاعف الربحية لتلك الشركات. وذلك البيع سوف يترتب عليه مدفوعات أو نزيف مستمر للنقد الأجنبي من الداخل للخارج لتحويل أرباح المستثمرين العرب والأجانب إلى بلدانهم وبالأسعار الرسمية للدولار والعملات الحرة الرئيسية. وتجدر الإشارة إلى أنّ ميزان دخل الاستثمار يتضمن مدفوعات للمستثمرين العرب والأجانب بلغت 19,5 مليار دولار عام 2022/2023، وهي مدفوعات يتم تحويلها للخارج بالسعر الرسمي للدولار، علمًا بأنها كانت 5,9 مليار دولار عام 2014/2015. وتلك المدفوعات تضغط بدورها على الاحتياطيات الدولارية لمصر وعلى سعر صرف الجنيه المصري.

ويكمن الحل في إحداث تغيير جوهري في السياسات الاقتصادية والتوجه نحو تركيز الاستثمارات على القطاعات الإنتاجية والإحلال محل الواردات لمعالجة مسببات العجز في الميزان التجاري وهو كعب أخيل أو نقطة الضعف الأساسية في المعاملات الاقتصادية الخارجية لمصر. كما أنّ هناك ضرورة لإيقاف بيع أصول الدولة بصورة عامة، وبخاصة للأجانب والعرب، لأنّ عملية البيع سترتد على مصر باستنزاف إيراداتها الدولارية من خلال تحويل العرب والأجانب لأرباحهم للخارج وبالسعر الرسمي للدولار.

الديون الداخلية

تعملقت الديون الداخلية في مصر والتي ستبلغ في العام المالي الحالي نحو 8312 مليار جنيه وفقًا لمشروع الموازنة العامة للدولة. وكانت تلك الديون قد بلغت 1816 مليار جنيه في منتصف عام 2014 عند استلام الرئيس السيسي للحكم لأوّل مرّة، أي أنها زادت بنسبة 358% خلال فترة حكمه. ولو تم قصر ملكية أرض الدولة والتصرف فيها بالبيع والإيجار على الدولة المدنية لحصلت الموازنة العامة على إيرادات كبيرة.

وكنموذج على ذلك فإنه لو حصلت الموازنة العامة للدولة المدنية على إيرادات بيع أرض العاصمة الإدارية وحدها لأمكن تحقيق زيادة كبيرة في إيرادات الموازنة العامة للدولة. وكذلك الأمر بالنسبة لرسوم المحاجر والمناجم والطرق.

الحل في إلغاء الإعفاء الضريبي وترشيد الإنفاق العام ووحدة الموازنة وانفراد الدولة المدنية بأراضي الدولة

ولو تم إلغاء الإعفاء الضريبي غير العادل الذي تتمتع به شركات جهاز الخدمة الوطنية التي تعمل في الاقتصاد المدني لتحسنت الإيرادات العامة. وذلك الإعفاء غير المنطقي قائم على البند الأول من المادة 47 من قانون الضرائب والذي ينص على أنّ "الضريبة على صافي الأرباح الكلية للأشخاص الاعتبارية (الشركات) أيًا كان غرضها (معدل تلك الضريبة 22,5% من صافي الأرباح)، تسري على الأشخاص الاعتبارية المقيمة في مصر بالنسبة إلى جميع الأرباح التي تحققها سواء في مصر أو خارجها، عدا جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بوزارة الدفاع".

وكان من الممكن ترشيد الإنفاق غير المبرّر على القصور الرئاسية الجديدة والمقرات الحكومية في الساحل والعاصمة الإدارية، فلدينا ما يكفي وما لا يتوفر لدول كبرى وغنية، وكذلك الأمر بالنسبة لبعض الطرق التي توجد بدائل كافية لها في ظروف بلد مثل مصر. باختصار يكمن الحل في ترشيد الإنفاق العام، وجمع كل الإيرادات العامة وإيرادات التصرف في أراضي وممتلكات الدولة بلا استثناء في يد الدولة المدنية وحدها، واستعادة وحدة الموازنة العامة للدولة بإدماج إيرادات وفوائض كافة المؤسسات التي تعمل في الاقتصاد المدني بما فيها تلك التابعة للأجهزة السيادية في الموازنة العامة للدولة، وإلغاء الإعفاءات الضريبية غير العادلة.

انخفاض الجنيه

تعرّض سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار والعملات الحرة الرئيسية والعملات التابعة لها لانهيار حقيقي في سقطات متتابعة ومضطربة أفقدته 50% من قيمته في خريف 2016، و48% من قيمته الجديدة في نهاية عام 2022 وبداية عام 2023 بسبب البرنامج الاقتصادي الذي تطبّقه حكومات الرئيس السيسي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي.

معدل التضخم في فترة حكم السيسي أصبح هو الأعلى على الإطلاق مقارنةً بكل الرؤساء

وهذا الانهيار أدى إلى مضاعفة أسعار الواردات بعد التخفيض الأول، ومضاعفة أسعارها مرّة أخرى بعد التخفيض الثاني بما قاد لموجتين هائلتين من ارتفاع الأسعار ومعدل التضخم المعبّر عن ذلك الارتفاع، بحيث أصبح معدل التضخم في فترة حكم الرئيس السيسي هو الأعلى على الإطلاق مقارنةً بكل الرؤساء، بكل آثاره الوبيلة التي تؤدي إلى تخفيض الدخول الحقيقية أو قدرة الدخول النقدية على شراء السلع والخدمات، وزيادة الفقراء فقرًا والأثرياء ثراءً، وإسقاط الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى إلى هوة الفقر. وتشير أحدث البيانات إلى أنّ معدل التضخم في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2023 بلغ 35,9%، وكان قد بلغ 38,1% في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، وهو يراوح عند هذه المستويات نفسها خلال غالبية شهور عام 2023، مما يشير إلى أنّ المعدل السنوي سوف يتجاوز التقديرات الرسمية التي أشارت إلى أنه سيبلغ 23,5% فقط في مجمل عام 2023.

وكان من الطبيعي في ظل التضخم الكبير أن يزيد معدل الفقر أو نسبة الفقراء من إجمالي عدد السكان في مصر من 26,3% عام 2012/2013 إلى 32,5% من عدد السكان في العام 2017/2018 وفقًا لآخر إحصاء متاح.

كما أنّ انهيار واضطراب الجنيه يُعد عامل كبح للاستثمار الخاص الجديد الذي يصعب عليه بناء أي حسابات مستقبلية في ظل عملة مضطربة. ولأنّ الاستثمارات الجديدة هي التي تخلق فرص العمل الجديدة، فإنّ جمودها يعني زيادة عدد العاطلين ومعدل البطالة، علمًا بأنّ البطالة وحرمان العاطلين من فرصة كسب عيشهم بكرامة، تُعد مسببًا رئيسيًا للفقر. ولا يمكن التعويل على البيانات الرسمية في قياس البطالة لأنها متخمة بأمور غير منطقية وغير علمية وخادعة لصانع القرار نفسه.

انخفاض الجنيه قزّم التقييم الدولي للناتج المحلي الإجمالي ومكّن الأجانب من شراء الأصول المصرية بأبخس الأثمان

وعلى سبيل المثال، تشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر والمنشورة في النشرة الإحصائية الشهرية للبنك المركزي المصري (عدد أكتوبر 2023، صـ 119)، إلى أنّ عدد المشتغلين بلغ 26 مليون مشتغل عام 2017. ولم يتم خلق أي فرصة عمل إضافية عام 2018 واستمر عدد المشتغلين عند 26 مليونًا، بما يعني أنّ صافي الداخلين الجدد لسوق العمل، أي نحو 600 ألف تقريبًا، قد انضم لصفوف العاطلين، ورغم ذلك وبقدرة قادر انخفض عدد العاطلين من 3,5 مليون عاطل عام 2017، إلى 2,8 مليون عاطل عام 2018 وبالتالي انخفض معدل البطالة من 11,8% عام 2017، إلى 9,9% عام 2018!! وخلال الفترة من عام 2017 حتى نهاية عام 2020 لم يتم خلق سوى 200 ألف فرصة عمل فقط، مقابل نحو 1,5 - 2 مليون هو صافي عدد الداخلين الجدد لسوق العمل في الفترة نفسها وفقًا للعلم والمنطق وليس للتلفيق الإحصائي، ورغم ذلك وبقدرة قادر انخفض عدد العاطلين من 3,5 مليون عاطل ومعدل بطالة 11,8% عام 2017، إلى 2,3 مليون عاطل ومعدل بطالة 7,9% عام 2020!!

وعلى صعيد آخر أدى الانخفاض الكبير لسعر صرف الجنيه المصري إلى تقزيم التقييم الدولي للناتج المحلي الإجمالي المصري مقدّرًا بالدولار والعملات الحرة، فانخفض ذلك الناتج من 332,5 مليار دولار عام 2016، إلى 236,5 مليار دولار عام 2017 بسبب التخفيض الأول، وانخفض من 475,2 مليار دولار عام 2022، إلى 387,1 مليار دولار عام 2023 وفقًا لقاعدة بيانات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي بناءً على بيانات رسمية مصرية.

الحل يكمن في معالجة عجز الموازين الخارجية واستنهاض الاستثمارات الضرورية لتحقيق النمو في القطاعات الإنتاجية

كما أدى إلى تمكين دول الخليج والأجانب من شراء الأصول المصرية بأبخس الأثمان عند تقديرها بالدولار والعملات الحرة بعد انخفاض سعر صرف الجنيه مقابلها، مما ضيّع على مصر إيرادات كبيرة لو كان البيع قد تم قبل تخفيض الجنيه بشكل هائل.

ولأنّ الجنيه يتدهور بسبب عجز الموازين الخارجية والإفراط في الاستدانة، فإنّ الحل يكمن في معالجة عجز الموازين الخارجية واستنهاض الاستثمارات الضرورية لتحقيق النمو في القطاعات الإنتاجية، أي الزراعة والصناعة عمومًا، وبخاصة الصناعات التحويلية والعالية التقنية، وترشيد الإنفاق الحكومي وضبط الاستدانة كما ورد آنفًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن