قضايا العرب

معركة "الإبادة" في لاهاي: نصرٌ "معنويّ قضائيّ" على إسرائيل

منذ بداية عدوانها على قطاع غزة، لم يكن هناك من يظن، بسبب التجارب التاريخية، أنّ جرائم إسرائيل ستقودها إلى "قفص الإتهام" أمام أعلى سلطة قضائية عالمية. لكن بعد أن أعلنت جنوب أفريقيا، في 29 ديسمبر/كانون الأول، تقدّمها بدعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية، لمقاضاة تل أبيب على ارتكابها جرائم "إبادة جماعية" ضد الفلسطينيين، بدأت تبرز الأسئلة والاستفسارات حول مسار هذه الخطوة والتداعيات التي من الممكن أن تترتب عليها.

معركة

هي المرة الأولى التي توافق فيها إسرائيل على المثول أمام محكمة العدل الدولية، بعد أن رفضت عام 2004 حضور إجراءات التقاضي بشأن جدار "الفصل العنصري" في الضفة الغربية، ثم تجاهلت الحكم النهائي في القضية متذرعةً بعدم اعترافها بسلطة المحكمة. أما الأسباب التي دفعتها إلى الموافقة هذه المرة على المثول، فهي تعود إلى القلق من إصدار المحكمة قرارًا يقضي بوقف الأعمال العسكرية في غزّة، نظرًا إلى أنّ جنوب أفريقيا قدمت طلبها إلى المحكمة، على أساس البند التاسع من اتفاقية "مكافحة الإبادة الجماعية".

تُعرّف هذه الإتفاقية الإبادة الجماعية بأنها "الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية". أما البند التاسع فينص على أنه "تعرض على محكمة العدل الدولية، بناء على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية...". في حين تنص المادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية على أنه "يكون للمحكمة سلطة أن تبيّن، إذا رأت أن الظروف تتطلّب ذلك، أي تدابير مؤقتة ينبغي اتخاذها للحفاظ على الحقوق الخاصة بأي من الطرفين".

ويوم الجمعة الفائت، أعلنت المحكمة بدء المناقشات لبحث "التدبير المؤقت"، الذي طلبت فرضه جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب "الإبادة الجماعية". وأشارت إلى أنها ستوضح، خلال مدة قصيرة، تاريخ إعلان قرارها بشأن التدبير المؤقت في جلسة علنية. بعد أن كانت المحكمة قد استمعت، الخميس، لمرافعة الفريق القانوني لجنوب أفريقيا، التي ركّز فيها على أن "أفعال إسرائيل وأوجه تقصيرها تعتبر ذات طابع إبادة جماعية، لأنها ترتكب بالقصد المحدد المطلوب لتدمير الفلسطينيين في غزّة، كجزء من المجموعة القومية والعرقية والإثنية الفلسطينية الأوسع."

وفي المقابل، رفضت إسرائيل هذه الاتهامات، التي وصفتها بأنها "قصّة مشوهة بشكل صارخ"، ودعت قضاة المحكمة إلى رفض طلب جنوب أفريقيا الخاص بوقف حربها على غزّة، بينما تولى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الهجوم السياسي على جنوب أفريقيا، بمؤازرة من الولايات المتحدة، الشريك الأساسي لتل أبيب في عدوانها على الفلسطينيين، إذ أعلنت واشنطن أنّها "لا ترى أي أعمال في غزّة تشكل إبادة جماعية".

ويؤكد أستاذ القانون الدولي وعميد المعهد الأميركي لإدارة الأعمال في باريس، الدكتور فادي فاضل، في تصريح لـ"عروبة 22"، أنّ لهذا الموضوع قيمته "المعنوية والقضائية"، موضحًا أنّ "أهمية القضية تعود إلى كونها تأتي تحت عنوان إتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، وهو أمر مهم في القانون الدولي، ما يثير قلق تل أبيب، نظرًا إلى أنها في أساس تأسيسها ترتكز على إدعاء تعرّض اليهود للإبادة".

وإذ يشرح أنّ "الخطوة الثانية، بعد الإستماع إلى كل من جنوب أفريقيا وإسرائيل، ستكون البحث في صلاحية الإختصاص من قبل المحكمة، وبعد ذلك تأتي الخطوة الثالثة، في حال قررت المحكمة أنها صاحبة إختصاص، أي النظر في القضية"، يلفت فاضل إلى أنّ "هناك العديد من التأثيرات في هذا المجال، حيث أنّ هناك 5 أعضاء من القضاة يمثّلون الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، أما باقي أعضاء المحكمة العشرة فيكونون أكثر إستقلالية"، مع إشارته إلى أنّ "المحكمة قد تصدر، في البداية، توصيات تتعلق بوقف الأعمال العسكرية التي من الممكن أن تُصنّف بأنها جرائم إبادة، لكنها تبقى توصيات غير ملزِمة، إلا إذا صدرت بقرار من مجلس الأمن كنوع من الإجراءات الإحترازية".

إنطلاقاً مما تقدّم، توضح مصادر قانونية، عبر "عروبة 22"، أنّ "مسار المحكمة ينقسم إلى مرحلتين: الأولى تتعلق بالإجراءات العاجلة التي قد تذهب إليها، أما الثانية فهي مرحلة المحاكمة، أي النظر في الإتهامات، التي على الأرجح ستمتد لسنوات طويلة، وبالتالي فإنّ الأساس الذي من المفترض التركيز عليه، هو المرحلة الأولى، لا سيما وأنّ تل أبيب، كعادتها، ستتهرّب من تنفيذ أي قرار قانوني يصدر ضدها، والطريقة الوحيدة لإجبارها على تنفيذ أمر المحكمة هي بتصويت مجلس الأمن عليه، وهنا من الطبيعي أن يكون الفيتو الأميركي حاضرًا لحماية إسرائيل".

وعلى الرغم من أن المصادر القانونية تؤكد أنّ "مسار المحكمة لن يكون سهلًا على الإطلاق، خصوصًا أنّ جرائم الإبادة الجماعية معقّدة ومن الصعب إثباتها"، إلا أنها تشدد في الوقت عينه على أنّ "مرد القلق الإسرائيلي يعود إلى الضرر المعنوي الذي سيترتب على إدانتها من أرفع محكمة دولية بارتكاب جرائم إبادة".

وفي هذا السياق، كان الخبير القانوني الإسرائيلي مردخاي كرمنيستر قد عبّر صراحةً، في مقال ضمن صحيفة "هآرتس" نهار الجمعة الفائت، عن حجم القلق الإسرائيلي من التداعايات المنتظرة عن مقاضاة إسرائيل في محكمة العدل الدولية، وأقرّ بـ"وجود تحريض في إسرائيل على تنفيذ إبادة جماعية ضد الفلسطينيين"، معتبرًا أن "مَن جلب هذه المصيبة على رؤوسنا هم أشخاص يتولون أرفع المناصب، بغبائهم وتعجرفهم وضعفهم الإنساني"، وحمّل في هذا المجال الحكومة الإسرائيلية المسؤولية عن ذلك، داعيًا إلى "الضرب على طاولة الحكومة وإيقاف أصوات النشاز التي تدعو إلى إبادة جماعية" في غزّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن