بصمات

من روّاد العروبة المنسيين: الشيخ عبد العزيز الثعالبي

غالبًا ما تمّ تغييب دور رجالات المغرب العربي في إثراء الفكرة القومية والمساهمة في نشرها لأسباب أو أخرى، في الوقت الذي ساهم بعض السياسيين والمفكّرين منهم، منذ العشرينات من القرن الماضي، في التبشير بالوحدة وإبراز مقوّماتها ومنافعها والوسائل التي تساعد على تجسيدها. ومن بين هؤلاء نذكر المناضل والمفكّر التونسي الشيخ عبد العزيز الثعالبي (1876 - 1944) الذي عُرف بسعة اطلاعه وتعدّد اهتماماته الفكرية والثقافية والسياسية كما عُرف بكثرة رحلاته - زار أغلب البلاد الإسلامية وبعض الدول الأوروبية - وتشبّعه بالأفكار الإصلاحية لخير الدين التونسي ومحمد عبده والأفغاني، كما عُرف بعلاقاته المتينة بالشخصيات الفرنسية الراديكالية والاشتراكية المقيمة بتونس والمتعاطفة مع الوطنيين التونسيين، وتفاعله مع كل ما هو جديد وحديث وتجاوز القديم.

من روّاد العروبة المنسيين: الشيخ عبد العزيز الثعالبي

لذلك لا غرابة أن تتميّز مسيرته بمراجعات سياسية وفكرية عميقة كل ما تطلّبت الظروف والمتغيّرات ذلك، ويمكن القول إنّ من أهمّ تلك المراجعات هي تلك التي قام بها سنة 1923 بعد تعرّضه لخيبتين اثنتين، الأولى كانت من قبل رفاقه في الحزب الذي أسّسه سنة 1920، ممّا اضطره لمغادرة البلاد والاستقرار بالقاهرة، وارتباطه بعلاقات متينة بالعديد من رجال الفكر العروبي، من قبيل عبد الرحمن الكواكبي ومحمد شكري الألوسي وعبد الله النديم ومحمد علي طاهر، أمّا الخيبة الثانية فتمثّلت في سقوط الدولة العثمانية وقيام الجمهورية بإسطنبول.

نأتي لأهمّ مراجعاته الفكرية فكانت في وقت مبكّر نسبيًّا، وتجسّدت في التخلّي عن أفكار الجامعة الإسلامية والتوجّه نحو الفكر القومي والدفاع عن فكرة الوحدة العربية برؤية استشرافية، ففي تصريح صحفي أدلى به على هامش زيارته لليمن أواخر شهر سبتمبر/أيلول 1924، أكّد أنّ "الجامعة العربية بذرة صالحة في أرض صالحة ولكن حصادها يحتاج إلى عشرين سنة وهي مدى بعيد عن الأفراد ولكنه قريب جدًا في حياة الأمم".

اعتبر أنّ الوحدة العربية حاصلةٌ فعلًا استنادًا لمقوّمات تشكّل الأمم محمّلًا الاستعمار مسؤولية تمزّق الأمّة وتفكّكها

وفي ردّه على الدعوة الموجهة له لحضور مؤتمر الصحافة الفلسطينية، حين كتب سنة 1924، أنّه كعربي صميم ملتزم بإعلاء شأن أمّته والعمل لـ"اتخاذ وسائل جديّة فعّالة لتوحيد كلمة إخواننا الفلسطينيين حول نزعة وطنيّة شريفة تثبت مبدأ القومية العربية في البلاد".

تعمّق هذا الوعي القومي لدى الثعالبي خلال الثلاثينات من القرن الماضي، ومن ذلك ما جاء في حديث له مع جريدة "الجهاد" المصرية، حيث اعتبر أنّ "الوحدة العربية حاصلةٌ فعلًا، ولا سبيل إلى نكرانها استنادًا لمقوّمات تشكّل الأمم وهي اللغة والدين والتاريخ والتقاليد والشريعة، وهي دلائل قاطعة على ثبوت وتحقيق الوحدة المنشودة"، محمّلًا في الوقت ذاته الاستعمار الأوروبي مسؤولية تمزّق الأمّة وتفكّكها وحلّ روابطها المادية والمعنوية.

كما اتهم الأتراك بـ"مواصلة خُططهم الجهنمية في تقويض كيان العرب حتى بعد انفصالهم ووقوفهم وجهًا لوجه أمام أوروبا ومبالغة في النكاية بالعرب"، وأنّهم تعاقدوا مع الدول المنتدبة على البلاد العربية "لإعاقتهم عن السير نحو التقدّم لقاء سلخ لواء الإسكندرونة العربي عن سوريا، غير أنّه في المقابل لا يستثني مسؤولية العرب في ما آل إليه حالهم نتيجة استسلامهم وخضوعهم للأتراك باسم الجامعة الإسلامية، ما أدى لتراجع دورهم ووهنهم وبالتالي عدم قدرتهم للتصدي للاستعمار الغربي"، داعيًا إلى تدارك "هذا الخطر قبل فوات الأوان"، خاصّة وأنّ ذلك لا يكلفهم جهدًا كبيرًا غير "تنظيم الصفوف وتوحيد وجهة العمل لمكافحة العدو المشترك وهو الاستعمار الأوروبي".

لم يكتف الثعالبي بالتشخيص بل قدّم بعض الأفكار لتجاوز واقع التجزئة من جهة وبعض المرتكزات والوسائل التي قد تساعد على تحقيق الوحدة، ومنها خاصّة الإيمان الصادق بفكرة العروبة والوحدة، واعتبار التجزئة هي لغير مصلحة العروبة بل في مصلحة أوروبا التي تتمثّل مصلحتها في الاستمرار في استعباد العرب والاستفادة من خيراتهم.

أكّد على ضرورة التعاون الاقتصادي بين البلدان العربية لتحقيق نوع من التكامل

كان رهانه على الثقافي والتنموي والتنظيمي لتحقيق أهداف الأمّة، إذ دعا العرب إلى تنظيم الصفوف وتوحيد وجهات النظر والعمل لمكافحة العدو المشترك، أي الاستعمار الأوروبي، وإحداث مؤسّسات قومية وتعزيز العمل الثقافي من خلال "إيجاد مدرسة جديدة ومنهاج جديد موحّد للتربية والتعليم وتأسيس رابطة قلمية تضم الكتّاب وحملة الأقلام تكون مهمّتها تغذية الفكرة بالنشر في الصحف وبتأليف الكتب وزيادة عدد البعثات العلمية إلى المعاهد المصرية، ودراسة التاريخ العربي والكشف عن أمجاده وزيادة الصلات الشعبية بين البلدان العربية بالمصاهرة والتزاور".

كما أكّد على ضرورة التعاون الاقتصادي بين البلدان العربية لتحقيق نوع من التكامل، من ذلك تقديم مشاريع اقتصادية "تكفل انتعاش معنويات العرب"، مع ضرورة "توظيف رؤوس الأموال العربية في مناطق الاستغلال الصالحة مثل اليمن والحجاز"، من باب المساهمة في تمتين "رابطة التوحيد، بل يحيلها إلى صلات مادية ملموسة النفع والبحث عن مصادر المواد الأولية فيها والعمل على استهلاكها".

وبذلك يراهن الثعالبي على وعي الشعوب واقتناعها بتلك الفكرة مؤكّدًا أنّ دور النخبة في هذه المرحلة هو "التقريب بين الشعوب العربية وتوحيد الرأي العام المستنير الذي يؤمن بوجوب إيجاد سياسة مشتركة أنّ المرحلة لا تستدعي التفكير في طبيعة الحكم المستقبلي لدولة الوحدة"، مضيفًا أنّه من الضروري أن "يُترك ذلك لما بعد تحرير بلداننا ويُترك للمستقبل ليكيّف نفسه بنفسه".

لم يكتفِ الشيخ الثعالبي بالاستشراف والتنظير بل انتقل إلى الميدان مبشّرًا وشارحًا لأسُس الفكرة القومية وجدواها لمستقبل البلاد العربية والقضية الفلسطينية.

ساهم إلى جانب مفتي القدس في تنظيم أول مؤتمر إسلامي لنصرة القضية الفلسطينية بالقدس

وعلى خلفية ذلك، قام بمساعي للمصالحة بين الملك عبد العزيز بن سعود والإمام يحيى بن حميد الدين، وأخرى في توحيد القبائل اليمنية ودعوته لسن دستور لنظام الدولة في اليمن كأحد معاول بناء دولة "حديثة"، أمّا بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فقد نبّه من خلال مقالاته وخطبه ومحاضراته إلى الخطر الصهيوني الذي "يسعى عبر الاستيطان لإنشاء كيان قومي صهيوني"، داعيًا العرب والمسلمين لمؤازرة الفلسطينيين والتضامن معهم في نضالهم وتصديهم للاستيطان والهجرة، بل زار في ثلاث مناسبات العديد من المدن الفلسطينيّة كغزّة ورام الله والقدس، وكتب في صحفها وخطب في نواديها وربط علاقات بالعديد من الرموز الفكرية والسياسية الفلسطينية، ومنهم الحاج محمد أمين الحسيني مفتي القدس، والكاتب الصحفي محمد عليّ الطاهر صاحب جريدة "الشورى"، وساهم إلى جانب مفتي القدس في تنظيم أول مؤتمر إسلامي لنصرة القضية الفلسطينية بالقدس، المؤرّخ في ديسمبر/كانون الأول 1931، بحضور أهم الزعماء الإسلاميين في الهند وكامل البلدان الإسلامية.

إجمالًا، يمكن القول إنّ الثعالبي كان أحد رواد العروبة الذي تميّز بفكره العقلاني والاستشرافي. وقد ظل وفيًّا لفكرة العروبة قولًا وفعلًا حتى وفاته.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن