صحافة

محنة غزّة والشرعية الدولية

حسين حسونة

المشاركة
محنة غزّة والشرعية الدولية

قامت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر عام 2023 و ما أعقبها من اعتداء إسرائيلي غاشم على قطاع غزة بإعادة طرح القضية الفلسطينية على الساحة الدولية بعد أن تلاشى اهتمام المجتمع الدولي بحلها، كما ثبت من خلال ما ارتكبته إسرائيل من جرائم وحشية إزاء المدنين الفلسطينيين العزل في قطاع غزة و الضفة الغربية أنها تتجاهل القانون الدولي و ترفض الامتثال به وتصر على انتهاك أحكامه، مما يدعونا إلى التحرى عن تلك الجرائم و النظر في كيفية طرحها على القضاء الدولي وبحث الوسائل المتاحة لمواجهة التحدي الإسرائيلي للشرعية الدولية.

يلاحظ أولاً أن إسرائيل استندت في اعتدائها على غزة إلى مبدأ الدفاع الشرعي ضد ما سمته إرهاب الفصائل الفلسطينية وذلك من أجل تبرير عقابها الجماعي و ارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، في حين أن الدفاع الشرعي في حكم ميثاق الأمم المتحدة لا يمارس سوى وفق شروط محددة من بينها أن يكون الدفاع متناسباً مع الهجوم كما وكيفاً وليس عدواناً عسكرياً متواصلاً على شعب مارس حقه الشرعي في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل تأكيداً لحقه في تقرير المصير المعترف به دولياً. والواقع أن إسرائيل سعت إلى توقيع عقاب جماعي على شعب غزة بالهجوم على المدنيين وتدمير الممتلكات وقصف المستشفيات والمدارس و دور العبادة وهي تعد جرائم محرمة دولياً وفق اتفاقيات جنيف لعام 1949 و النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. هذا وقد ترتب على قصف غزة بأطنان من المتفجرات بعضها قنابل الفسفور الأبيض المحرمة دولياً تلوث البيئة بشكل خطير مما هدد مناخ القطاع، وهو موضوع تناولته مؤخراً لجنة الأمم المتحدة للقانون الدولي التي شاركت في عضويتها، مؤكدة أهمية حماية البيئة في حالات الاحتلال حيث إن تلوثها يعد خرقا لحقوق الإنسان كالحق في الماء والغذاء والصحة والحياة.

كما تعرض الشعب الفلسطيني لجريمة بشعة أخرى هي الإبادة الجماعية التي أدانها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وعرفتها اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948 باعتبارها تشمل ارتكاب أفعال بقصد تدمير جماعة قومية أو عرقية أو دينية عن طريق التجويع أو إلحاق أذى بدني أو معنوي جسيم وهي أفعال متكررة تقع ضد شعب غزة. ثم إن مجلس الأمن قد أدان بشدة عام 2018 استخدام تجويع المدنيين ومنع تزويدهم بالمساعدات الإنسانية كأسلوب من أساليب القتال، وهو ما لجأت إليه إسرائيل في غزة لقهر إرادة المقاومة الفلسطينية للاحتلال.

ويمثل التهجير القسري للفلسطينيين جريمة أخرى ارتكبتها إسرائيل منذ عام 1948 رغم مطالبة المجتمع الدولي بعودتهم إلى ديارهم، وهو يعد انتهاكا خطيرا لحقوق الإنسان وجريمة كبرى ضد الإنسانية لذا حرمته اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 وكذا النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولي.

وقدمت جنوب إفريقيا طلبا إلى محكمة العدل الدولية لبدء إجراءات ضد إسرائيل لما وصفته بأنه أعمال إبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وطالبت المحكمة بإصدار أمر لإسرائيل بالوقف الفوري لجميع هجماتها على المدنيين، كما طالبتها بالإعلان عن أن إسرائيل تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948 في حملتها المتواصلة ضد حركة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. ولا شك في أن تلك المبادرة تستحق الإشادة والتأييد وقد رفضت إسرائيل طلب جنوب إفريقيا ووصفته بأنه يفتقد إلى أساس واقعي وقانوني، كما ادعت الولايات المتحدة أن الدعوى تؤدي إلى نتائج عكسية. ونحن نتطلع إلى أن تدين إسرائيل في تهمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

وتعد المحكمة الجنائية الدولية جهة قضائية دولية أخرى ذات اختصاص في الفصل في جرائم إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة. حيث حسمت المحكمة هذا الأمر بمتقضى حكم صادر عام 2021 حيث أكدت أنها تملك اختصاصاً في هذه الحالة يسري على غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية باعتبارها مناطق فلسطينية، وفلسطين عضو بنظام روما المنشئ للمحكمة. هذا وقد تلقى المدعي العام للمحكمة كريم خان مؤخرا طلباً من عدد من الدول للتحقيق في الجرائم التي ترتكبها اسرائيل في الأراضى المحتلة – وسوف نرى ماذا سيسفر عنه هذا التحقيق في ضوء اعتراض اسرائيل والولايات المتحدة على ذلك.

ورغم تلك الصعوبات فما زالت هناك إجراءات يمكن اتخاذها من قبل العرب لمعاقبة اسرائيل على جرائمها إزاء الشعب الفلسطيني. ويحق للجامعة العربية فرض مقاطعة ضد إسرائيل ومن يؤيدها، ثم يمكن السعي لتجميد عضوية اسرائيل في المنظمات الدولية والإقليمية بهدف عزلها على الساحة الدولية، بالإضافة إلى إنشاء محكمة جنائية خاصة لمحاكمة من ارتكبوا جرائم من الإسرائيليين أسوة بالمحاكم التي تم انشاؤها في شأن يوجوسلافيا ورواندا - وهناك وسائل أخرى يمكن اللجوء إليها من أجل ملاحقة اسرائيل وإدانتها لجرائمها المعترف بها دولياً. فمن الملاحظ أن تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم مما يتطلب القيام بتوثيقها تمهيداً لمحاكمة مرتكبيها - كما يمكن رفع دعاوى جنائية ضد إسرائيل أمام المحاكم الوطنية للدول التي يسمح نظامها القضائي بذلك استناداً إلى تطبيقها مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي.

وختاماً فقد حان الوقت إلى التوصل لتسوية شاملة ودائمة للقضية الفلسطينية برمتها دون الاكتفاء بحل مؤقت للوضع المأساوي في غزة والضفة الغربية - وفي هذا السياق هناك حاجة إلى مواصلة تمسك فلسطين والدول العربية والإسلامية بتسوية القضية الفلسطينية استناداً إلى قواعد القانون الدولي الثابتة والمستقرة، وليس وفقاً للاعتبارات السياسية والمصالح الذاتية المتغيرة.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن