وجهات نظر

مائة يوم.. وأسطورة الصّمود

مرّت على الحرب الإسرائيلية ضدّ غزّة مائة يوم، بدون أن تحقّق أيّا من أهدافها المعلن عنها رسميًا، والتّي كانت بمثابة التزام مبدئي قطعته الحكومة على نفسها أمام العالم ومواطنيها. أمّا الخفي في هذا الالتزام الذّي ظلّ مضمونه سريًّا والذي على أساسه حدث التوافق بين الحكومة والدولة العميقة، هو تحقيق حلم إسرائيل في إبادتها الجماعية للغزّيين وتهجيرهم والقضاء النهائي على "حماس"، انسجامًا مع استراتيجياتها الجديدة في احتلال القطاع والسّعي إلى هيكلة حكومة فلسطينية صورية خاضعة لإرادة إسرائيل. وهذا ما أعرب عنه رئيس مجلس الأمن القومي قبيل العدوان بساعات في قناة "24 نيوز".

مائة يوم.. وأسطورة الصّمود

هنا، لا بدّ من التّذكير أنّ هذا القرار الأعمى كان بمباركة أمريكية اشترط فيها بايدن ضرورة الإنجاز الفوري للهدف في أقصر مدّة ممكنة، وقد تم الإلحاح على هذا الشّرط من طرف بلينكن في زيارته الأخيرة لتل أبيب، لأنّ أمريكا كانت تعي جيّدًا أنّ طول الحرب لن يكون في صالح إسرائيل؛ نظرًا لاعتبارات أخلاقية وسياسية وخطورة الامتدادات الإعلامية السّريعة عبر تكنولوجيات التواصل الحديثة؛ فضلًا عن الخسارات الاقتصادية والمالية التّي ستضعف إسرائيل بالرغم من المساعدات المالية التّي تقدّمها لها أمريكا.

بايدن في وضع مُحرج وحزبه يشهد تصدّعًا بخصوص مواقف أمريكا من القضية الفلسطينية والشّرق الأوسط

لكن الذي حدث على أرض الواقع أبطل كلّ التحليلات وفنّد توقّعات منظّري الهجوم وتقنيي المعارك. فلم تكن تعتقد إسرائيل، ولا حلفاؤها، أنّها ستخوض أطول حرب في مسار صراعها مع الفلسطينيين وستتلقّى ضربات تاريخية موجعة، تُسقط صورتها الموهومة التي سوّقتها طويلًا لكيانها المحتل.

خلال المائة يوم، تحوّلت يقينيات أمريكا وإسرائيل إلى ما يضادّها. وذلك في ثلاث محطّات بارزة.

الأولى: عوض استمرار التّوافق ما بين مكوّنات القرار في الدولة الإسرائيلية، حدث الانقسام بين الحكومة ومجلس الحرب بخصوص ملف الأسرى وإدارة المعارك ومستقبل قطاع غزّة. فأصبح نتنياهو متّهمًا بارتهانه لوزراء اليمين المتطرّف خوفًا على مصير حكومته، ومُتّهمًا بانتهاجه أسلوب الهجوم على القادة العسكريين بتحميلهم مسؤولية الهزيمة أمام مقاتلي "حماس" تضليلًا للرأي العام الإسرائيلي وتستّرًا على فشله الذّريع في تدبيره للحرب، وإخطائه الموعد لتحقيق الأهداف.

هنا، أكّدت جريدة "هآرتس" الإسرائيلية أنّ الجدل الحاصل داخل الحكومة حول قرار إنهاء الحرب أو الاستمرار فيها، يشهد ارتباكًا غير مسبوق في تاريخ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، نظرًا لعجزها عن هزم جنود "حماس" وفصائل المقاومة وتحرير الرهائن.

لم تستطع إسرائيل هذه المرّة أن تلتفّ على غضب العالم لخرقها المواثيق والأعراف الإنسانية

الثانية: سقوط اليقينيات الإسرائيلية، في تضليلها للرأي العام الدّولي، أمام صحوة الرأي العام الغربي واكتشافه للحقيقة، خاصة الولايات المتحدة وإنجلترا، حيث اندفعت شعوب الغرب في الشّوارع للاحتجاج ضد بشاعات إسرائيل. فانقلبت الموازين وبات الرّأي العام الأمريكي يتخلى عن دوره التّقليدي في دعم إسرائيل والانتصار إلى الفلسطينيين في غزّة بحماسة ملحوظة، ممّا سيكون له تداعيات سياسية مؤثّرة في القرار السياسي الأمريكي، بدليل أنّ الديمقراطيين بدأوا لأوّل مرّة يتعاطفون مع القضية الفلسطينية رسميًا. الأمر الذّي جعل بايدن في وضع مُحرج، وجعل حزبه يشهد تصدّعًا بخصوص رأي أمريكا ومواقفها من القضية الفلسطينية والشّرق الأوسط.

الثالثة: لم يكن يخطر ببال إسرائيل أن تكون في وضع اتّهام من العالم أجمع، استنكارًا لوحشيّتها ضد شعب أعزل. فلم تستطع هذه المرّة أن تلتفّ على غضب العالم لخرقها المواثيق والأعراف الإنسانية. فهي اليوم تشهد لأوّل مرّة مثولها أمام محكمة العدل الدّولية بشكاية موثّقة من طرف جنوب أفريقيا ترصد فيها ممارسات ترتبط بالإبادة الجماعية في غزّة. وستظل هذه المحاكمة محط اهتمام جالبة لأنظار العالم، سياسيًا وإعلاميًا، وسيترتّب عن نتائجها تأثيرات جيوسياسية عميقة، إقليميًا ودوليًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن