اقتصاد ومال

فرنسا تختار شابًا لإدارة حكومتها.. ما هو الدرس المستفاد عربيًا؟

وزير أول شاب (34 سنة فقط) يقود الحكومة الفرنسية منذ منتصف الشهر الجاري، وهو وزير التربية السابق الذي أثار جدلًا وطنيًا حول لباس الفتيات المسمى "العباية" الذي ترتديه بعض الفتيات من أصول مغاربية مهاجرة داخل المدارس الحكومية، وقد "نجح" في حظره في المدارس حفاظًا على قيم الجمهورية العلمانية، كما توعّد أيضًا برفع المستوى التعليمي الذي انهار مقارنةً بالمستويات الأوروبية في مهارات الحساب واللغة، وإن كانت توجهاته في الهوية الجندرية قد تثير بعض المخاوف لدى العائلات من أصول مغاربية أو العائلات المسلمة، من احتمال ترويج هذا الخطاب الجندري أكثر في نظام تعليمي قد يشوّش على العائلات تربية أبنائهم وبناتهم وفق التقاليد المرعية.

فرنسا تختار شابًا لإدارة حكومتها.. ما هو الدرس المستفاد عربيًا؟

عوّدتنا فرنسا على الحكومات المتعاقبة والوجوه الشابة الواعدة بالإصلاح، لكنّ الملاحظين والمعلّقين الجادين في فرنسا يرون أنّها مجرد رياح عابرة لا تغيّر من الوضع الفرنسي الجامد والمتعثّر والمتأزّم على عدّة صعد، خاصة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.

الاقتصاد الفرنسي عمومًا يمر بمرحلة تدهور، معدل النمو انخفض بـ1,5 عن المعدل الأوروبي، ونسبة البطالة تبقى مرتفعة بالمعايير الأوروبية، والإنتاجية انخفضت بـ5 نقاط بين 2019 و2021 والتغيبيّة عن العمل تزايدت ولم تلتحق الصناعة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والروبوتات.

فرنسا معروفة في العالم أنّها جهنم ضريبية مقابل الجنات الضريبية التي يفر لها الناس أصحاب الثروات والأعمال

أمّا الدّين الحكومي، فإنّه في تزايد مخيف تجاوز 3000 مليار يورو، وازداد الضغط الضريبي على المواطنين لدفع فوائد الدّين الحكومي، والتوقعات تشير إلى نمو اقتصادي متواضع في 2024 وهناك مخاوف من أن يكون النمو سالبًا.

ما زالت فرنسا معروفة في العالم أنّها جهنم ضريبية مقابل الجنات الضريبية التي يفر لها الناس أصحاب الثروات والأعمال، ومؤخرًا حاول الرئيس ماكرون منح إعفاءات ضريبية مفاجئة وبسرعة لفيدرالية الرياضة تحضيرًا للألعاب الأولمبية هذا الصيف في باريس، لكن المجلس الدستوري اعتبرها غير دستورية وأنّها امتيازات ضريبية غير مشروعة.

تُعرف فرنسا بارتفاع التكاليف الضريبية على الأجور وهي الأعلى في أوروبا، لأنّ التكاليف التي يتحملها ربّ العمل وتكلفة الضريبة تناهز 76 بالمائة من الأجر حيث تكلفة الأجور هي الأعلى أوروبيًا، وهي الأجور الأقل قيمة للعامل حيث تذهب الأجور إلى صناديق الحكومة وليس إلى جيوب العمّال.

في فرنسا أيضًا، تدفع 10 بالمئة من العائلات الثرية ما قيمته 72 بالمائة من الضرائب على الدخل بينما في الولايات المتحدة يدفع 95 بالمائة من الأثرياء نسبة 5 بالمئة من الضرائب على الدخول ممّا يجعل الأجور مكلفة لأرباب العمل ومنخفضة للعمال.

ويُعتبر الدخل الفردي الفرنسي من أضعف الدخول الفردية في البلدان الغنية حيث بلغ 42.650 دولارًا في السنة مقارنةً بالدخل الفردي الأمريكي 78.420 دولارًا سنويًا.

شكّل الإنفاق الحكومي سنة 2022 نسبة 58.3 بالمائة من الناتج الإجمالي المحلي، وهذه نسبة عالية مقارنةً بالمعايير الأوروبية، كما يوجّه الإنفاق الحكومي بشكل محدود لتوفير الأمن والعدل حيث بلغت نسبة الإنفاق على الأمن والعدل 4.7 بالمائة من ميزانية بلغت 785 مليار يورو في بلد تتصاعد فيه قضايا توفير وارتفاع الجريمة في النقاشات الاعلامية والسياسية، في حين تمّ الإنفاق بالنسبة نفسها على البيئة (4 بالمائة) وتعتمد المجالس المحلية (البلديات) على الإنفاق الحكومي من باريس (16 بالمائة) وليس على الضريبة المحلية.

وتعاني فرنسا من تشريعات العمل المقيّدة للإنتاجية والابتكار والتي تُسهم في رفع نسب البطالة الناتجة عن البطالة الهيكلية، حيث إنّ النقابات لديها حصانة قانونية كبيرة وقوة تفاوضية كبيرة تمنع تسريح العمال بسهولة، بل إنّ الكثير من الشركات التكنولوجية الفرنسية أفلست لأنّها لم تستطع أن تدخل الابتكارية وتنافس شركات غوغل الأمريكية وأخواتها وشركات علي بابا الصينية وأخواتها بسبب القيود على تسريح العمال غير المهرة، حيث تستخدم النقابات القوية الإضراب كوسيلة لوقف أي تغيير تكنولوجي أو أي إصلاح في القطاع الحكومي وهي تسهلك أموالًا طائلة من دافعي الضرائب.

فرنسا هي المثال الديمقراطي السيّء للحكامة التي ينبغي أن تتجنّبه البلدان العربية

عربيًا، علينا أن نستفيد من النموذج الديمقراطي الفرنسي الذي يظهر أنّه نموذج غير فعّال من حيث الحكامة، إذ رأينا أنّ القيادات الشابة قد لا تضيف أي قيمة للنمو الاقتصادي إذا كانت الحكامة مختنقة بالضغوط من الإنفاق الحكومي المتضخم، والذي يعتمد على العجز المتزايد والدّين المتراكم. الحلّ ليس في المزيد من القيادة الشابة بل القليل من القيادة المبذرة، لأنّ زيادة التدخل الحكومي في القطاعات غير المتعلقة بالأمن والعدل من شأنه زيادة الإنفاق المبذر للموارد في قطاعات غير منتجة ومستهلكة للمال العام بدون زيادة للإنتاجية. كما يمكن للقطاع الخاص الربحي وغير الربحي أن يقدّم مكان الحكومة الكثير من الخدمات بتكلفة أقل وبجودة أفضل.

فرنسا هي المثال الديمقراطي السيّء للحكامة التي ينبغي أن تتجنّبه البلدان العربية في شمال أفريقيا وتلك الواقعة في شرق المتوسط (لبنان، مصر، تونس، الجزائر، المغرب وموريتانيا) حيث لا زال هناك في هذه البلدان بعض من التأثير الفرنسي الذي يعود للفترة الاستعمارية، وعلى القيادات البيروقراطية هناك.

لا زال النموذج الفرنسي يُشكّل النموذج الجاهز الذي يتمّ الرجوع إليه هنا في المنطقة مع العديد من الدول العربية، وبصفة آلية وبطريقة "القص واللصق" تحت ضغط السرعة في اتخاذ القرار الحكومي الذي يسير وفق أجندات طارئة متقلّبة حسب التغيّرات السياسية الداخلية والخارجية المتسارعة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن