انشغل المراقبون في فكّ شيفرة الردّ الباكستاني الصاروخي، وقبله في الرسائل الإيرانية المحمّلة على صواريخ بالستية انتقامية وثأرية لمقتل بعض جنرالاتها وآخرهم رضي الموسوي في دمشق، والتي ذُخّرت بحشوات إضافية مثل "الثأر" لشهداء "محور المقاومة" ومنهم صالح العاروري.
وأسهبت بيانات "الحرس الثوري" في الكلام عن نوعية وعدد الصواريخ التي أُطلقت من مدينة كرمنشاه وجنوب غرب الأهواز، وفصّلت أنّ 4 صواريخ "خيبرشكن" استهدفت "مجموعة تكفيرية" أي "الحزب الإسلامي التركستاني" بمدينة إدلب في سوريا لضلوعها بـ"تفجيرات كرمان" بجوار قبر قاسم سليماني والتي سبق لتنظيم "داعش" أن أعلن مسؤوليته عنها، وسبق لإيران أن أعلنت أنّ عناصر "داعش" هم من طاجيكستان، فلماذا استهدفت إدلب وليس طاجيكستان؟ كما أنّ 11 صاروخًا بالستيًا استهدفوا "المقرّ الصهيوني" في إقليم كردستان العراقي ردًا على ما وصفتها إيران بـ"تحركات إسرائيلية عدوانية" أدّت لمقتل قادة في "الحرس الثوري" وجماعات مرتبطة به.
إيران قدّمت عرضًا إعلاميًا واستعراضًا للقوة بعيدًا عن الاحتكاك بطرفَـي المواجهة الفعليين "إسرائيل" وأمريكا
قبل الردّ الباكستاني، وبقراءة تحليلية محايدة، يمكن القول إنّ إيران قدّمت ما يشبه العرض الإعلامي لبعض منظومات صواريخها، كما قدّمت استعراضًا للقوة بواسطة ذراعها الصاروخية الطويلة. لكنّ هذين العرض والاستعراض حصلا بعيدًا عن الاحتكاك بطرفَـي المواجهة الفعليين "إسرائيل" وأمريكا في الحرب على غزّة. ففيما استهدفت "إسرائيل" علنًا جنرال الحرس الثوري رضي الموسوي في دمشق، ردّت إيران بقصف "إربيل". وفيما أعلن "داعش طاجيكستان" مسؤوليته عن "تفجير كرمان" استهدفت إيران إدلب. أمّا موضوع "جماعة العدل" المتهمة بتنفيذ عمليات داخل إيران، فيقابله "جيش تحرير بلوشستان" المدعوم من إيران، وفيه تحرّش بسيادة باكستان التي أنتج ردّها هزّ هيبة إيران وتهشيم استعراض القوة الذي نفّذته في الإقليم، ما وضع البلدين أمام احتمالات الاحتراب وسط توجّسات الصين ودول الجوار.
بدون شك، خطفت صواريخ إيران الثلاثية الأبعاد الأضواء، لكن عند اكتشاف هشاشة الأهداف، تلاشت الأضواء التي لم يتبقَ منها سوى الاستعراض والدعاية بامتلاك القوة. وهنا تبدو إيران وكأنّها في موقع المنافسة مع فاعلية الحوثيين المتصاعدة في البحر الأحمر حيث تضطر بعض السفن لرفع لافتات تقول "لسنا متجهين إلى إسرائيل". وثمّة من يتساءل لماذا كشّرت إيران عن أنيابها الصاروخية تحديدًا بعد إعلان أبو عبيدة الناطق باسم "كتائب القسّام" في سياق دحضه لادعاءات جنرالات الاحتلال أنّ "ما تمتلكه القسّام من صواريخ وأسلحة وذخائر هو من صناعتها الكاملة" في أنفاق غزّة، دون أي إشارة أو تلميح لمطلق دور لإيران في تسليح "القسّام"!
عراقيًا، قبل الصواريخ الإيرانية وجدت حكومة بغداد نفسها في مأزق كبير، جرّاء استهداف مُسيّرة أمريكية للقيادي في الحشد الشعبي "أبو تقوى السعيدي" ما دفع برئيسها شيّاع السوداني إلى مخاطبة الأمريكيين بشأن جدولة انسحابهم من العراق.
إحراج كبير أصاب العراق المستولَدة حكوماته من التخادم بين الولايات المتحدة وإيران
بعد الصواريخ إيّاها، وجدت حكومة بغداد نفسها في مأزق وإحراج كبير أيضًا، اضطرّها لاستدعاء سفيرها من طهران للتشاور، وتسليم القائم بالأعمال الإيراني مذكرة احتجاج على ما وصفته بـ"العدوان على إربيل وانتهاك سيادة العراق"، واستتبعت ذلك بشكوى ضد إيران أمام الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فضلًا عن تخصيص الجامعة العربية جلسة طارئة أدانت فيها "العدوان الإيراني على العراق ومبرّراته الواهية"!
إذن، ثمّة إحراج كبير أصاب العراق. البلد الفاقد للتوازن منذ نكبته بالاحتلال الأمريكي عام 2003 والمستولَدة حكوماته من التخادم بين الولايات المتحدة وإيران ما جعله يخضع حتى اللحظة لأبشع معايير تقاسم النفوذ والهيمنة الناجمة عن تلك "العملية السياسية" التي عبثت بالموازين الدينوغرافية التي غيّرت أحجام مكوّناته لتتلاءم ومحاصصاته الطائفية دستوريًا، وفقًا لمصلحة طرفَي التخادم.
وفيما ينظّم وجود القوات الأمريكية بعد "تمدّد داعش"، اتفاقيات رسمية بغرض تدريب الجيش العراقي وتسليحه، ينظّم نفوذ إيران الميليشيات التي أنشأتها ثمّ شرّعتها ودسترتها ضمن "الحشد الشعبي" أولًا، وبإسباغ زعيم "حزب الله" لقب "المقاومة" عليها ثانيًا، علمًا أنّ غالبية هذه "المقاومة" دخلت بمعيّة الاحتلال الأمريكي عام 2003. وبين أثقال الوجود الأمريكي والنفوذ الإيراني مُسخت شخصية العراق الوطنية ومكانته الإقليمية والدولية، ليجد نفسه اليوم أسير التجاذبات الحادّة بين طرفَي التخادم وفي صراع معهما معًا، ما يطرح السؤال حول ما إذا كان العراق وطرفَي التخادم قد بلغوا مرحلة الطلاق السياسي؟.
وفق هذا السياق الحادّ، جاءت الصواريخ الإيرانية على إربيل، كرسالة نارية تقول للأمريكيين والإسرائيليين "كما استهدفتم نفوذنا في سوريا والعراق، فبإمكاننا استهداف نفوذكم فيهما، وفي باكستان أيضًا".
لكن ضجيج الصواريخ الإيرانية بعيدًا عن "إسرائيل" والقواعد الأمريكية لم يمنح إيران بوصفها زعيمة "محور المقاومة" تلك المكانة التي شكّلت أساس قوتها الناعمة بادعاء "مواجهة إسرائيل والشيطان الأكبر"، ولهذا فقدت بريقها. إذن، إنها الرسائل الصاروخية التي جوّفتها الولايات المتحدة من مفاعليها التصعيدية، وقالت بلسان المتحدث باسم خارجيتها ماثيو ميلر "نحن نعارض الضربات الصاروخية المتهورة التي تقوم بها إيران، والتي تقوّض استقرار العراق".
التخادم الأمريكي الإيراني سمح بتواجد جميع المُعادين للعرب والعراق على الأراضي العراقية
وبعيدًا عن نفي حكومة كردستان ومستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي لوجود مقر لـ"الموساد" خلال تفقده مواقع إربيل المقصوفة، يفيد القول إنّ أهم محطة لـ"الموساد" كانت في كردستان العراق، لكن ماذا عن محطة "الموساد" في بغداد نفسها؟.
جواب السؤال، يعود إلى متابعتي لوضع العراق بعد سقوط بغداد متابعة لحظوية طيلة عام 2003. إذ لم يعد سرًّا أنّه دخل مع الاحتلال الامريكي كل من هبّ ودبّ من استخبارات العالم ومنها "الموساد" الذي اتخذ من فندق "إيغال" المقابل لمقر إقامتي في فندق "قصر المرجان" مقرًّا له. وقد أثار هذا الفندق الاستخباري في "ساحة الواثق" ريبة كل من يمرّ بمحاذاته بفعل الإجراءات الأمنية المختلفة حتى عن الأمريكيين، وكان جيران الفندق يعتقدون بأنه مقرّ إقامة لبعض الجنرالات الأمريكيين. لكن سرعان ما فضح سرّه خطيب الجمعة في "جامع أبي حنيفة" الشيخ محمد الأعظمي الذي تحوّلت خطبته إلى بيان باسم "المقاومة العراقية" يحذّر الناس من الاقتراب من "مقر الموساد"، ما دفع فريق "الموساد" لمغادرته، وتردّد بأنه اتخذ من "فندق بغداد" على نهر دجلة مقرًا له. وبعد تفجير ضخم أصاب الفندق المشمول بحماية ممتدة من المنطقة الخضراء تعلوها الجدران الكونكريتية، تبخّرت المعلومات حول وجود "الموساد" ومقره الجديد في بغداد. ما تقدّم لا يهدف إلى نفي أو تأكيد وجود "الموساد" في إربيل وبغداد، بل للقول بأنّ التخادم الأمريكي الإيراني، سمح بتواجد جميع المعادين للعرب والعراق ورئيسه الراحل صدّام حسين على الأراضي العراقية.
وإذا كانت إيران تتحسّس من وجود "الموساد" على حدودها مع "إقليم كردستان"، فلماذا لم تُثر هذه المسألة خلال تضامنها مع "الإقليم" أثناء "تمدّد داعش"، أو خلال انهماكها في عقد الصفقات الاقتصادية والسياسية وتكوين السلطة العراقية مع الأحزاب الكردية؟ ما يكشف بأنّ صواريخ إيران، وبغض النظر عن أضرارها وتداعياتها الإقليمية والدولية، استهدفت المُعادين عقديًّا لها من سوريا والعراق إلى باكستان، كما يكشف حزام النفوذ والهيمنة الذي تريد تكريسه في لحظة غليان الإقليم مع دخول باكستان على خط النار، وتهديد "إسرائيل" لبنان بالحرب، وتأكيد نتنياهو أن "لا دولة فلسطينية" طالما هو في منصبه. ألهذا السبب تبحث واشنطن في خطة "اليوم التالي" لما بعد نتنياهو؟.
(خاص "عروبة 22")