ترتبط الثقافة بالبنية الثقافية المتأثرة والمؤثرة ككيان مستقل، أمّا التثقيف فهو آلية وأدوات نقل أو انتقال الثقافة من حيز الكمون الذاتي إلى حيز التفاعل بين أقطاب الواقع الحي، وبالنتيجة، نحن معنيون بالتفكير الجماعي في الموانع الثقافية نفسها على الرغم من انتمائها لذات الكيان الثقافي إضافة للموانع الخارجية الأخرى.
نعتقد أنّ هناك عدة محددات مؤثرة في واقع التثقيف بالمنطقة العربية، إيجابية كانت أم سلبية، سواء كانت محددات محلية خاصة بكل دولة عربية أو محددات إقليمية أو محددات خارجية، ونتوقف في هذه المقالة عند المحددات الثقافية بالتحديد.
أدوات الاستعمار تناولت الثقافة خلال تغلغلها في الحيّز العربي، وخطاب المقاومة ساهم في تكريس عزلة ثقافية
لقد ساهمت نسبة من المؤسسات الثقافية العربية في تعطيل انتقالها لحيز التفاعل المتجدّد، ذلك من خلال تطعيم بنيتها الداخلية بموانع التفاعل مع العصر بحجة المقاومة الثقافية، سواء اتخذت هذه الموانع خطاب التقليد أو خطاب الحداثة أو خطاب مواجهة الاستعمار، على وجاهة الظاهر من هذه الموانع، لأنه في الحالات الثلاث لا يمكن الاعتراض على الحقّ في تمسّك الشعوب العربية بتراثها وهويتها، ومن ذلك اشتغال المؤسسات الثقافية على صيانة هذا الموروث، والأمر نفسه مع تمسك فئات نخبوية أو تيارات فكرية بالحق في ولوج باب الحداثة، وأخيرًا، الحق في مواجهة آثار حقبة الاستعمار.
لكن ما جرى على أرض الواقع، بخصوص العنصر الثالث مثلًا، والخاص بمواجهة الاستعمار، أنّ الشقّ السياسيّ لهذا الخطاب تغول على الخطاب الثقافي. صحيح أن أدوات الاستعمار كانت تتناول الثقافة خلال تغلغلها في الحيز العربي، إلا أنّ خطاب المقاومة ظلّ رافدًا من روافد العزلة حتى بعد سنوات الاستقلال، مما ساهم في تكريس ما يشبه عزلة ثقافية.
زاد الأمر تعقيدًا ظهور تيارات دينية اعترضت على خطاب النهضة العربية، ومنها خطاب النهضة القومية، وتطور الأمر لاحقًا مع صعود أسهم هذه التيارات مقابل التراجع النسبي للمد القومي.
كانت هناك حصانة ثقافية مركّبة لدى الأجيال السابقة بخلاف السائد من الجيل الحالي
منذ تلك الحقبة والعالم العربي منخرط في مجموعة من التحديات التي أثرت سلبًا على أداء ومعالم البنية الثقافية، وتطورت في بعض المحطات إلى اندلاع معارك فكرية كان من المفترض أن تساعدنا في مسار النهضة الثقافية إجمالًا، وهو ما لم يتحقق حتى الآن بشكل كلّي، لأنه لا يمكن صرف النظر عن إنجازات تحققت فعليًا وفي عدة أمثلة تهمّ المنطقة العربية، لكن السياق العام يفيد أنّ النهضة الفكرية المرجوة لا زالت غير مكتملة.
من نتائج تلك الإكراهات السابقة التي تحدثنا عنها أعلاه، أننا نعاين جيلًا من الشباب يطرح عدة أسئلة حول الهوية الثقافية، وتتضح معالم ذلك في طبيعة تفاعل هذا الجيل مع المنصات الرقمية وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، بخلاف المعالم الكبرى للانتماء الهوياتي التي كانت سائدة لدى الأجيال السابقة، وبعضها للتذكير، مرّ من تجربة مناهضة الاستعمار والمساهمة في بناء مؤسسات الدولة بعد الحصول على الاستقلال، وبالتالي كانت هناك حصانة ثقافية مركّبة لدى تلك الأجيال بخلاف السائد من الجيل الحالي، وهذا معطى يجب أن نأخذه بعين الاعتبار في معرض اشتغال صناع القرار بالمنطقة العربية على وضع سياسات ثقافية محلية وإقليمية.
ما يبعث على التفاؤل أيضًا هنا أننا كنا نعاين خلال العقد الماضي بوادر نهضة فكرية وثقافية مع العديد من دول المنطقة، كأنها تعيد إحياء مشاريع النهضة الفكرية، سواء ردّ الاعتبار للبحث العلمي، تأسيس مراكز بحثية، أو إطلاق جوائز في مجالات البحث العلمي والأدب ضمن مؤشرات أخرى إيجابية ينبغي صيانتها والتنويه بها في آن.
(خاص "عروبة 22")