في الأيام الأخيرة من 2023، توصّل الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق بشأن إصلاح سياسة الهجرة، في الأسبوع نفسه الذي أقر فيه البرلمان الفرنسي قانونًا صارمًا للهجرة، وأيّده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
احتفى اليمين المتطرّف في أوروبا، المعروف بمشاعره المناهضة للمهاجرين، بالإجرائيين على حد سواء، واعتبرهما انتصارًا في معاقل الليبرالية الاجتماعية. وبينما أشادت أحزاب الوسط التقليدية في البرلمان الأوروبي بالاتفاق، باعتباره حلًا وسطًا مبتكرًا، يقدّم المساعدة للدول الحدودية للتعامل بصرامة مع طلبات اللجوء، دون إجبار الدول الأخرى على استقبال طالبي اللجوء، انتقد سياسيون يساريون داخل البرلمان الأوروبي الميثاق الجديد، باعتباره يحقق رغبات اليمين المتطرّف تجاه المهاجرين.
من جهتها قالت منظمة العفو الدولية إنّ الاتفاق السياسي سيؤدي إلى "زيادة معاناة طالبي اللجوء واللاجئين والمهاجرين في كل خطوة من رحلتهم".
وارتفع عدد اللاجئين في الدول الأوروبية من 7 ملايين في نهاية عام 2021 إلى 12.4 مليون في نهاية عام 2022 بسبب الحرب في أوكرانيا، بينما وصل عدد طالبي اللجوء في العام نفسه إلى حوالى مليون شخص تقريبًا، حسب وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء.
وخلال الأشهر الـ11 الأولى من عام 2023، شهدت أوروبا قفزة بنسبة 17 بالمائة في عدد الوافدين غير النظاميين (355 ألف شخص) مقارنةً بالفترة نفسها من العام السابق، جاء أكثر من نصفهم من أفريقيا وعبر البحر الأبيض المتوسط إلى إيطاليا واليونان.
اتجاه جديد في الاتحاد الأوروبي
في ديسمبر/كانون الأول 2023، توصّل الاتحاد إلى اتفاق على "العناصر السياسية الأساسية" لاتفاقية اللجوء والهجرة، بعد سنوات من المحاولات الفاشلة لإيجاد أرضية مشتركة بشأنها، في أعقاب أزمة 2015/2016 عندما وصل أكثر من مليون شخص إلى أوروبا، مدفوعين بأحداث مثل الحرب الأهلية السورية.
شمل الميثاق مجموعة معقّدة من خمسة أجزاء مترابطة من التشريعات، المعروفة باسم الميثاق الجديد بشأن الهجرة واللجوء، وصمّم كإطار قانوني شامل، يمكنه طي صفحة إدارة الأزمات المتعلقة بالهجرة في العقد الماضي، والتي دفعت البلدان لاتخاذ تدابير أحادية وغير منسقة للتعامل مع وصول طالبي اللجوء، ويضع معايير واضحة المعالم تلزم جميع الدول الأعضاء، بغض النظر عن موقعها الجغرافي وثقلها الاقتصادي.
يتلخص الهدف النهائي من الميثاق في إيجاد توازن بين مسؤولية دول المواجهة، مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا، التي تستقبل الجزء الأكبر من طالبي اللجوء، ومبدأ التضامن الذي ينبغي للدول الأخرى أن تتمسك به.
ينص الاتفاق الجديد على أنّ دول خط المواجهة في جنوب أوروبا ستضع إجراءات لجوء أكثر صرامة على حدودها خارج الاتحاد الأوروبي وستكون قادرة على إبعاد طالبي اللجوء المرفوضين بسرعة أكبر.
سيسمح الاتفاق أيضًا لدول شمال أوروبا الأكثر ثراءً، التي يأمل العديد من المهاجرين في الاستقرار بها، برفض قبول طالبي اللجوء، بشرط أن يدفعوا تعويضات لدول الجنوب الأكثر فقرًا حيث تصل معظم قوارب المهاجرين.
سيتعين على البلدان الواقعة في الشمال الاختيار بين قبول حصتها من 30 ألف طالب لجوء أو دفع ما لا يقل عن 20 ألف يورو للشخص الواحد في صندوق الاتحاد الأوروبي.
فيما يتعلق بشروط قبول اللاجئين، سيتعرض هؤلاء إلى نظام فحص صارم يحدد أحقيتهم بالحصول على الحماية الدولية من عدمه.
وسيمنع الاتفاق الأشخاص أصحاب طلبات اللجوء ذات الأسباب الضعيفة، مثل أولئك القادمين من الهند أو تونس أو تركيا، من دخول الاتحاد الأوروبي، ثم يحتجزهم على الحدود، بما في ذلك الأُسر التي لديها أطفال، كما يمكن منع الأشخاص الذين يُنظر إليهم على أنهم يمثّلون تهديدًا للأمن.
تعليقًا على الميثاق، قالت ليلى بودو، كبير مسؤولي السياسات والمناصرة للجوء والهجرة في منظمة كاريتاس أوروبا: "نحن قلقون من أن يكون له تأثير سلبي على الأشخاص الذين يلتمسون الحماية في أوروبا، سيتعيّن عليهم البقاء في البلدان الحدودية للاتحاد الأوروبي في مرافق شبيهة بالسجون، لمدة ستة أشهر على الأقل أثناء معالجة طلبات اللجوء الخاصة بهم". وأضافت بودو: "سيشمل هذا الأطفال والعائلات"، مشيرةً إلى أنّ هناك إعفاءً صغيرًا للقصّر غير المصحوبين بذويهم "ما لم يشكّلوا خطرًا أمنيًا على البلاد".
سينفّذ الميثاق بالكامل بعد التوصّل إلى اتفاق نهائي بشأن كافة أجزائه بحلول فبراير/شباط، ثم تحويله إلى قانون قبل انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو/حزيران، على أن يدخل حيز التنفيذ مطلع 2025.
ماذا يعني الاتفاق لطالبي اللجوء بالداخل؟
يتطرّق الميثاق أيضًا لموقف اللاجئين الموجودين في الداخل الأوروبي، والذين رُفضت طلبات اللجوء الخاصة بهم، أو متوقع رفضها في المستقبل. وفق الميثاق، ستتخذ أوروبا إجراءات فورية لترحيلهم سريعًا إلى بلدان أخرى خارج الاتحاد، لكن ليس بالضرورة إلى البلد الذي كانوا يعيشون فيه سابقًا.
شهد هذا البند جدلًا واسعًا أثناء المفاوضات، أرادت إيطاليا زيادة الخيارات بشأن المكان الذي يمكنها إرسال طالبي اللجوء المرفوضين إليه، ليشمل دولًا تعرف بأنها قمعية أو لا تحترم حقوق الانسان، لكن ألمانيا اعترضت، بحجة أنّ الاتحاد الأوروبي لا يمكنه إرسال أشخاص إلى دول لا تحترم حقوق الإنسان بشكل كامل.
انتهى الاتفاق النهائي بانحياز الأغلبية، ما يقرب من 10 دول، إلى إيطاليا في هذه القضية، على أن يظل الأمر متروكًا لكل بلد لتحديد ما إذا كانت الدولة الخارجية التي ستستقبل اللاجئين، ستمتثل حقًا للمعايير الدولية لحقوق الإنسان. ووفقًا لمسودة النص، يجب أن يكون المهاجر "أقام أو استقر في البلد المختارة، أو لديه عائلة هناك، حتى يُرسل إليها".
يخشى المدافعون عن المهاجرين من فشل الاتحاد الأوروبي في إلزام كل عضو بهذا المعيار، مما يدفع كل دولة ببساطة إلى تطويع القواعد لصالحها، خاصة أنّ رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية، جيورجيا ميلوني، أقامت بالفعل تحالفًا مع نظيرها البريطاني، ريشي سوناك، لتمويل عمليات إعادة المهاجرين إلى تونس، وهي دولة منشأ وعبور للمهاجرين المتجهين إلى أوروبا.
كما أبرمت إيطاليا اتفاقين آخرين، الأول مع ألبانيا لإيواء ما يصل إلى 36 ألف مهاجر سنويًا، والثاني مع ليبيا والنيجر لإقامة مشاريع تهدف إلى "الحد من وصول المهاجرين غير الشرعيين إلى الشواطئ الإيطالية".
اليمين المتطرّف
ويذهب العديد من المراقبين إلى أنّ هناك مناخًا يمينيًا مُتطرّفًا يهيمن على مشروعات قوانين الهجرة في الاتحاد الأوروبي والدول الكبرى في القارة. ويشير مراقبون إلى أنّ السرعة التي تم التوصل بها إلى الاتفاق قد تكون مسؤولة جزئيًا عن عدم الاهتمام بالمعايير الحقوقية أو إغفالها. وأكدوا أنّ الضغط السياسي كان كبيرًا للغاية على البرلمان الأوروبي للتوصل إلى اتفاق قبل عيد الميلاد لأسباب سياسية، أهمها أنّ انتخابات البرلمان تجري في يونيو/حزيران، لذلك كان لا بد من إبرام هذا الاتفاق بسرعة كبيرة.
وأشاروا إلى أنّ أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط التقليدية التي تسيطر على أكثرية مقاعد البرلمان، وكانت تهيمن على أغلبيتها حتى انتخابات 2019، اضطرت لدمج مقترحات اليمين المتطرّف بشأن قوانين الهجرة، والتي كانت مرفوضة من قبل بسبب تشددها ضد حقوق اللاجئين والمهاجرين، لتصبح جزءًا من الصفقة الجديدة.
كان هدف الأحزاب التقليدية هو قطع الطريق أمام أحزاب اليمين المتطرّف، التي تستغل تزايد المشاعر المعادية للمهاجرين في أوروبا، لتسجيل انتصارات شعبية، تمكّنها من الفوز بمقاعد أكثر في الانتخابات البرلمانية الأوروبية المقبلة.
الإسلاموفوبيا وحرب غزّة
وقال ماتيو إيلاردو، الباحث بمركز ران لدراسات المخاطر، إنّ السياسة التقليدية في أوروبا للأحزاب الرئيسة، والتي تعمل على عزل القوى المتطرّفة وتهميشها، تعاني من التآكل المستمر منذ فترة، مما زاد من تغلغل أحزاب اليمين المتطرّف في الحكومات الائتلافية في مختلف أنحاء القارة.
وأشار إيلاردو إلى أنّ أزمة الهجرة من 2014 إلى 2016 ساهمت في تسريع هذا الاتجاه، مع تزايد رد الفعل الشعبي العنيف ضد ارتفاع مستويات الهجرة من شمال أفريقيا والشرق الأوسط، باعتبارها تهدد الهوية الوطنية والسلامة العامة.
وتقول شدى إسلام المتخصصة في شؤون الاتحاد الأوروبي، ومديرة مشروع New Horizons (شركة استراتيجية وتحليلية واستشارية)، إنّ مأساة أوروبا اليوم هي أنّ العديد من القادة والساسة السائدين إما تبنوا وجهات نظر وخطابات يمينية متطرّفة، أو جلبوا اليمين المتطرّف إلى الحكومة أو سمحوا لوجهات نظرهم بتحديد السياسة.
وتشير إسلام إلى أنّ زعماء اليمين المتطرّف وضعوا أجزاء كثيرة من أجندة الاتحاد الأوروبي، من بينها سياسات الهجرة العدوانية التي تشمل الإعادة غير القانونية للاجئين، والتي ترتكز على خطابات عنصرية تُشيطن المهاجرين، وتحديدًا منهم المسلمون وذوو الأصول العربية.
في سياق متصل، يرى البعض أنّ الحرب في غزّة قدّمت للشعبويين اليمينيين المتطرّفين في أوروبا فرصة تاريخية لبناء خطاب مناهض للمسلمين، ومؤيّد لتفوّق العرق الأبيض، مما سمح لها بفرض أجندتها المتطرّفة فيما يتعلق بقوانين الهجرة.
وتؤكد المنظمات التي تقيس الهجمات المعادية للإسلام أنها لاحظت ارتفاعًا واضحًا في الهجمات ضد المسلمين والأقليات الأخرى في جميع أنحاء أوروبا عقب اندلاع الحرب في غزّة، تعاطفًا مع إسرائيل.
وأوضحت مجلة بوليتيكو أنّ الحرب بين إسرائيل وحماس تؤجج التوترات الحضارية في قلب العديد من الدول الأوروبية التي تضم أعدادًا كبيرة من السكان المسلمين، وتفيد أحزاب اليمين المتطرّف في فرض أجندتها بشأن الهجرة، بعد عقود من الحملات ضد الإسلام والمهاجرين العرب.
(خاص "عروبة 22")