صحافة

الضربات الإيرانية.. ومستقبل الشرق الأوسط

نورهان الشيخ

المشاركة
الضربات الإيرانية.. ومستقبل الشرق الأوسط

في غضون 24 ساعة وجهت إيران صواريخها باتجاه ثلاثة من دول الجوار، سوريا والعراق وباكستان، لتفتح جبهة توتر جديدة مع الأخيرة في وقت تشتد الأزمة على عدة محاور بالمنطقة. وقد أثارت الضربات الإيرانية العديد من التساؤلات نظراً لما شهده العقد الماضي من تطور ملحوظ في التعاون الأمنى بين إيران والدول الثلاث.

فقد جمع إيران والعراق وسوريا تحالف خماسي لمواجهة داعش ضم أيضاً روسيا وحزب الله وكان مركز التنسيق المشترك له في بغداد. كما أن كلا من إيران وباكستان أعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون التي تضع مكافحة الإرهاب على قمة أولوياتها. وفي يوليو من العام الماضي اتفق قادة الجيش الباكستاني والإيرانى على زيادة التعاون الاستخباراتي بين البلدين من أجل القضاء على الإرهاب العابر للحدود، وذلك في ختام زيارة رسمية قام بها رئيس هيئة أركان الجيش الباكستاني الجنرال عاصم منير إلى طهران. كما كانت طهران أحد المشاركين في مؤتمر ضم رؤساء أجهزة الاستخبارات في 8 دول إقليمية عُقد في إسلام آباد عام 2021، لبحث سيطرة طالبان على كابل، واتفق البلدان على تبادل المعلومات بانتظام حول تنظيم «داعش خراسان» الذي تعتبره إيران تهديداً لها، والجماعات الانفصالية البلوشية التي قامت طالبان بطردها من الأراضي الأفغانية بعد وصولها إلى السلطة لتتخذ من المناطق الحدودية بين باكستان وإيران قاعدة تنطلق منها لتنفيذ هجمات إرهابية ضد القوات الباكستانية في بلوشستان. وتقاتل الدولتان منذ فترة طويلة المسلحين في منطقة البلوش المضطربة على طول الحدود المشتركة بينهما والتي تمتد حوالى 900 كيلومتر، وتضم محافظة بلوشستان الباكستانية من جهة، ومحافظة سيستان وبلوشستان الإيرانية من جهة أخرى، ولم يكن من المعتاد أن تقوم طهران بضرب أهداف عبر تلك الحدود دون إبلاغ باكستان.

من جهتها أكدت إيران أن الهدف من ضرباتها هو حماية أمنها القومي عبر توجيه ضربات لمجموعة تكفيرية في مدينة إدلب بسوريا كانت وراء تفجير كرمان داخل إيران والذي كان أعنف هجوم مسلح في البلاد منذ عام 1979، وما يسمى بجماعة جيش العدل في باكستان السنية المتشددة، المعروفة في إيران باسم «جيش الظل»، وهي جماعة بلوشية تسعى إلى استقلال محافظة سيستان وبلوشستان عن إيران، وكانت في الأصل جزءًا من جماعة أكبر تسمى جند الله انقسمت بعد إعدام إيران زعيمها عام 2010. أما الضربات نحو أربيل بكردستان العراق فقد بررتها طهران باستهداف مقر للموساد وكونها ردا على ما اعتبرته تحركات إسرائيلية «عدوانية» أدت لمقتل قادة في الحرس الثورى الإيراني وجماعات مرتبطة به. وقد يكون ما سبق أحد أسباب الضربات الإيرانية، إلا أن دوافع إيران تتجاوز مكافحة الإرهاب أو الانتقام لحادث كرمان أو لاغتيال قادة في الحرس الثورى.

لقد أرادت طهران تأكيد قوتها وجاهزيتها القتالية وقدرتها على حماية أذرعها وحلفائها، وكونها ندا وخصما قويا ليس فقط لاسرائيل ولكن للولايات المتحدة ذاتها، وإن صواريخها يمكن أن تطول المنطقة بأسرها شرقا وغربا. وفي مواجهة استعراض واشنطن قوتها العسكرية بضربات ضد الحوثيين وتكثيف وجودها العسكري في البحر الأحمر لردع المزيد من التحركات الإيرانية، سعت طهران بضرباتها الصاروخية لردع الولايات المتحدة والتلويح بأن التصعيد الأمريكي سيقابله تصعيد إيراني على محاور عدة مربكة وموجعة لواشنطن.

على صعيد آخر، يؤشر ذلك لانحصار واضح للنفوذ والتأثير الأمريكي في المنطقة، ليس لصالح دولة بعينها، وإنما توازن جديد للقوى الدولية والإقليمية. لقد فقدت الولايات المتحدة كثيرا من أوراق اللعبة في المنطقة ولم تعد قادرة على فرض رؤيتها وممارسة ضغوط فعالة كما كانت من قبل حتى مع أقرب حلفائها، إسرائيل. فقد أكدت الأزمة في غزة محدودية تأثير واشنطن على تل أبيب، وأن ما كان يملكه ويستطيعه كارتر أو حتى كلينتون لا يتمتع به بايدن الذي لم يستطع وزير خارجيته، أنتونى بلينكن، بعد أربع جولات في المنطقة إقناع اسرائيل بوقف العنف والتصعيد والاتجاه للمفاوضات. ناهيك عن مزيد من التراجع في صورة الولايات المتحدة ومصداقيتها، وبعد أن كانت الشيطان الأكبر في إيران فقط، تعالت أصوات الاحتجاجات بذلك في اليمن والأردن وغيرهما. كما أصبحت دول المنطقة أكثر نضجاً في تفاعلاتها، وأكثر حذراً من الانزلاق في تصعيد يعطي لواشنطن مساحات أوسع للحركة والتأثير إعمالاً لمبدأ «فرق تسد»، ويخدم المصالح الأمريكية عبر عرقلة التعاون مع الصين التي تبدي اهتماما كبيرا بدفع الشراكة مع كل من باكستان وإيران بالنظر إلى أهمية موقعها الجيواستراتيجي وإطلالها على بحر العرب وخليج عُمان بوصفه أحد الطرق التجارية المهمة في مشروع الممر الاقتصادى المشترك بين الصين وباكستان، ومشاريع بكين التجارية الأخرى التي تستهدف المنطقة.

في هذا السياق استطاعت طهران واسلام أباد احتواء الأزمة سريعاً، وأكد وزيرا الخارجية الباكستاني والإيراني عقب اتصال هاتفي بينهما الاتفاق على ضرورة تعزيز التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، ومجالات أخرى ذات اهتمام مشترك. كما قررت باكستان إعادة العلاقات الدبلوماسية مع طهران، وكانت قد استدعت سفيرها من طهران، وأعلنت أن السفير الإيراني الموجود في بلاده لن يسمح له بالعودة إلى باكستان على خلفية الضربات الإيرانية. كذلك ورغم التنديد العراقي واستدعاء السفير في إيران للتشاور فإن الاتجاه للتهدئة هو الغالب أيضاً بين البلدين.

إن الشرق الأوسط يمر بمرحلة تحول تاريخية، يعاد فيها رسم خريطة التوازنات والتحالفات به، وتتسابق القوى الدولية والإقليمية إلى حجز مقعدها في الترتيبات الجديدة على أساس من الشراكة والتوافقات القائمة على الاحترام المتبادل للمصالح ومتطلبات الأمن القومي.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن