بصمات

تاريخ موجز للحداثة العربية (4/2)

في مطلع القرن الثامن عشر حدث تطور بارز، إثر هزيمة عثمانية أمام قوات الدول الأوروبية عام 1699، اضطرت الدولة العثمانية إلى التخلي عن مناطق شاسعة في وسط أوروبا وحوض الدانوب وهنغاريا وكانت بمثابة أول هزيمة كبرى دفعت النخبة الحاكمة إلى البحث عن أسباب القوة العسكرية الأوروبية.

تاريخ موجز للحداثة العربية (4/2)

في تطور غير مسبوق أرسل الصدر الأعظم إبراهيم باشا سفارة إلى فرنسا (ولم يكن آنذاك ثمة سفارات دائمة) عام 1721، وعلى رأسها السفير محمد جلبي للاطلاع على أحوال فرنسا، فكتب تقريرًا مفصّلًا ذكر فيه مظاهر العمران والفنون (الأوبرا) والمانيفكتورات وبعض أحوال الملك والحكومة. لكن السفير الذي أسهب في وصف القصور، وحمل معه خرائط لقصور ملكية، لا يبدو أنه اعتقد بتفوّق الفرنسيين على العثمانيين لكنه أقرّ باختلافهم في العادات، والذي حدث أنّ الطبقة الحاكمة في استامبول قد أُعجبت بنمط العمارة الفرنسية فأقامت قصورًا على البوسفور. وانتهى ما عُرف بعصر التوليب في عهد السلطان أحمد الثالث (1703-1730) بثورة أطاحت به.

أدرك العثمانيون في القرن الثامن عشر أنّ ما يميّز الأوروبيين هو النظام

ولم يمضِ وقت طويل حتى كتب إبراهيم متفرقة، وهو مؤسس أول مطبعة في استامبول، وموظف في الخدمة السلطانية، من أصول هنغارية، رسالة بعنوان: أصول الحكم في نظام الأمم، يشدد فيها على فكرة النظام وخصوصًا النظام العسكري، ويؤكد فكرته من خلال المثال الروسي، لأنّ الروس كانوا متأخرين ولكن قيصرهم الذي أخذ الخبرة الأوروبية استطاع أن يبني جيشًا وأسطولًا وهزم السلطنة في إحدى المعارك.

ويشير متفرّقة بشكل غير مباشر إلى أنّ حكومات أوروبا لم تعد تأخذ بالقوانين الدينية وإنما تتقيّد بما يمليه عليها العقل.

في وسط القرن الثامن صارت اللغة الفرنسية معروفة من عدد من أفراد النخبة العثمانية. وفي سبعينات القرن الثامن عشر قام رئيس الكتّاب أحمد رسمي، وهو بمثابة وزير الخارجية العثماني بزيارتين إلى برلين وڤيينا، ووصف مؤسسات البوليس والبريد وغيرها، وقد استنتج بأن ادعاء العثمانيين بأنهم متفوقون على الأوروبيين هو ادعاء ينبغي أن يقلعوا عنه. وقبل نهاية القرن الثامن عشر اقتنع السلطان سليم الثالث (1789-1807) بضرورة إقامة قوات عسكرية وفق ما هو معمول به في الجيوش الأوروبية وأطلق عليها اسم النظام الجديد. وهذا الاسم يعبّر عن إدراك العثمانيين في القرن الثامن عشر، بأنّ ما يميّز الأوروبيين هو النظام وخصوصًا في مجال العسكرية.

أول البعثات المصرية إلى فرنسا، كانت تلك التي شارك فيها رفاعة رافع الطهطاوي، الذي كتب حول إقامته في باريس التي امتدت خمس سنوات (1826-1831) كتابه: تخليص الابريز في تلخيص باريز.

إنّ أهمية الكتاب كونه يفصل الحديث عن أحوال باريس والحياة فيها لأنه جاء بعد أن أنجزت أوروبا، ثلاث ثورات كبرى: ثورة التنوير التي أرست أُسُس العقلانية الغربية، والثورة السياسية التي تمثّلت بالثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، والثورة الصناعية بعد أن استُخدم البخار في تسيير الماكنات في الفبريقات.

يقول الطهطاوي: "من المعلوم أنّ البلدة أو المدينة تبلغ من الحضارة قدر معرفتها وبعدها عن حالة الخشونة والتوحش. والبلاد الافرنجية مشحونة بأنواع المعارف والآداب التي لا ينكر انسان أنها تجلب الأحسن وتزيّن العمران. وقد تقرّر أنّ الملة الفرنساوية ممتازة بين الأمم الافرنجية بكثرة تعلّقها بالفنون والمعارف".

يستخدم الطهطاوي مفردات: حضارة ومعارف وعمران، للإشارة إلى حداثة فرنسا والعاصمة باريس.

قدّم الطهطاوي في كتابه وصفًا لأحوال الفرنسيين في العمارة والمأكل والملبس، والفنون وكذلك في القانون الذي يعطي الفرنسيين حقوقًا وحرياتهم في القول والعمل والملكية، ويتحدث عن تقسيم العلوم والآداب، أي كل ما أحرزته المدنية الأوروبية. في زمن الطهطاوي أي عصر محمد علي باشا، كان قد تم الإقرار بتقدّم الأوروبيين في العلوم والتقنيات وأنظمتهم العسكرية بوجه خاص.

التمدن الأوروبي أصبح من القوة بحيث لا يمكن الوقوف بوجهه أو تجاهل آثاره ومفاعيله

كذلك إقامة خير الدين التونسي في باريس لعدة سنوات مكّنته من معرفة أحوال أوروبا، التي سجّلها في كتابه: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك (1867). والذي يمكن اعتباره وثيقة تقر بتقدّم أوروبا وطبيعته الكونية في عبارته:

"إنّ التمدن الأوروباوي تدفق سيله في الأرض فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره فيخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من هذا التيار، إلا إذا حذو حذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية فيمكن نجاتهم من الغرق".

تحمل العبارة التي ينسبها لأحد أعيان أوروبا، دلالات عديدة، فالتمدن الأوروبي أصبح من القوة بحيث لا يمكن الوقوف بوجهه أو تجاهل آثاره ومفاعيله. فلا بد من الأخذ به، وإن كان خير الدين التونسي يرى أنّ الأخذ يكون تدريجيًا.

وما يهمنا هنا، أنّ خير الدين قد استخدم المصطلح الذي يعني به حداثة أوروبا، أي التمدن. وهي المفردة التي استخدمت من جانب العديدين من النهضويين في القرن التاسع عشر.

إنّ مصطلح النهضة استُخدم للتعبير عن جملة الأفكار التي تمثَلها الأدباء والكتّاب العرب، وهي ذات مصدر أوروبي وتعبّر عن قيم الحرية والمساواة والوطنية. كما تشير مفردة تنظيمات إلى جملة الإجراءات التي تبنّتها الإدارات في مجالات التعليم والقضاء والعسكرية وغيرها، والتي تقع من الناحية الزمنية في عصر التنظيمات العثمانية الذي ترجع بدايته إلى إقرار الإصلاحات (خط كلخانة 1839)، وقد استخدمت مفردات التمدن والنهضة والتنظيمات لتشير إلى الحداثة الأوروبية في القرن التاسع عشر بوجه خاص.


لقراءة الجزء الأول: تاريخ موجز للحداثة العربية (4/1)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن