صحافة

حدود التركيز الأمريكي في المنطقة بعد "طوفان الأقصى"

فاتن الدوسري

المشاركة
حدود التركيز الأمريكي في المنطقة بعد

بالرغم من التراجع الواسع لأهمية المنطقة الاستراتيجية للولايات المتحدة منذ ولاية إدارة أوباما، ظلت المنطقة - وستظل - معضلة عويصة لواشنطن، وذلك من حيث حدود التركيز الشامل اللازم فيها، وأيضًا بشأن التعاطي مع أخطر القضايا التي تعنى واشنطن فيها وعلى رأسها أمن إسرائيل، وتحجيم إيران، ومحاربة الإرهاب، والمحافظة على ثقة الحلفاء التقليديين في المنطقة وأهمهم دول الخليج ومصر والأردن.

بدأ الجدل المحتدم داخل دوائر صنع القرار في واشنطن، وبين أبرز الكتاب الأمريكيين، حول الأهمية الاستراتيجية للمنطقة لواشنطن؛ بدأ مبكراً جداً في نهاية ولاية «بوش الابن»، والتي تبين فيها أن واشنطن بصدد تحول جذري في استراتيجيتها تجاه العالم والمنطقة.

وبشأن المنطقة، ارتأى الكثير داخل دوائر صنع القرار ومعهم كتاب بارزون مؤثرون في صنع القرار الأمريكي، أن عزم واشنطن تحويل تركيزها التام نحو آسيا، وتهميش المنطقة بصورة شبه تامة، ينطوي على خطورة شديدة للغاية. إذ لا تزال المنطقة تمثل أهمية استراتيجية بالغة من حيث مكافحة الإرهاب، والاستراتيجية البحرية العالمية لواشنطن. وبعض من هؤلاء قد نبه إلى استغلال خصوم واشنطن وبالأخص روسيا والصين وإيران هذا الفراغ لملئه.

وتحت وطأة التهديد الصيني الخطير، وتراجع قوة الاقتصاد الأمريكي؛ انتصر التيار المؤيد بحتمية تقليص واشنطن اهتمامها بالمنطقة، والذي يرى أيضا أن المنطقة قد أمست «عبئا» ثقيلا للغاية يجب التخلص منه. وقد تجسد ذلك في سياسات الإدارة الأمريكية في المنطقة منذ ولاية أوباما التي رمت إلى المحافظة على حضور عسكري قوي «لكن دون فعالية»، والتركيز على ملفات ضيقة على رأسها أمن إسرائيل بالقطع، وتأمينه قد يقتضي إبرام صفقة تسوية مع إيران.

عد بايدن من أكثر المتحمسين لتقليص التركيز الأمريكي في المنطقة، حيث كان واضحا للغاية بشأن ذلك، أثناء ما كان نائبا لأوباما، وأثناء حملته الانتخابية التي كرر فيها أكثر من مرة عبارة «إنهاء الحروب الأبدية لواشنطن في المنطقة». وقد تبدى ذلك من قرار الانسحاب السريع المتخبط من أفغانستان فور توليه الرئاسة، وسحب بعض الأصول العسكرية من منطقة الخليج وإعادة توجيهها إلى الباسفيك.

أعادت الحرب الأوكرانية الأهمية الاستراتيجية للمنطقة بقوة إلى المدرك الاستراتيجي الأمريكي. حيث تبين لواشنطن الأهمية البالغة للمنطقة في حسابات واستراتيجيات واشنطن العالمية. وعلى نحو آخر، قد تيقنت أن الأحداث والتحولات الرئيسية في المنطقة لها ارتدادات خطيرة على واشنطن. لذا، سرعان ما قصد بايدن السعودية بعد الحرب في زيارة وصفت بالتاريخية، للتنسيق في شأن أسعار النفط، وتقوية جبهة التحالف التقليدية ضد محور روسيا-الصين. وبالنسبة لبايدن تحديدا، فقد تكشف له في إطار سياسات التحالفات التي ينتهجها لمقاومة الصين، مدى أهمية تعزيز التحالف مع حلفائه في المنطقة لا سيما في إطار تنامي النفوذ الصيني في المنطقة. لذا، شدد في خطابه في السعودية على مسألة بقاء واشنطن في المنطقة وعدم ذهابها إلى أي مكان آخر على حد تعبير بايدن.

وعلى أثر ذلك، بدأت إدارة بايدن في تعزيز تركيزها في المنطقة بقدر ما. حيث تكشف عن وجود خطط أمريكية لإعادة هندسة المنطقة، بما يضمن تعزيز مصالح واشنطن دون انغماس واسع في المنطقة. إذ بدأ الحديث عن مخطط واسع للتطبيع مع إسرائيل، كما تم الإعلان عن الممر الاقتصادي الجديد الذي يربط بين الخليج والهند وأوروبا والرامي إلى تقويض مبادرة «الحزام والطريق الصينية».

ومثّل طوفان الأقصى، الحدث الفيصلي الحاسم لواشنطن بشأن حدود وأفق التركيز الأمريكي في المنطقة، لأنه مس أخطر وأهم ملف لواشنطن في المنطقة وهو «وجود إسرائيل ذاته». والأخطر بالنسبة لطوفان الأقصى بالنسبة لواشنطن - كما يرى العديد من المتخصصين المرموقين - أنه قد دمر خطط بايدن بالكامل لإعادة هندسة المنطقة التي عكف على بنائها منذ الحرب الأوكرانية.

لذا، عادت بقوة المنطقة كمعضلة عويصة لواشنطن، وذلك من حيث حتمية اتخاذ قرار حاسم بشأن التركيز كما كان في السابق لا سيما التركيز العسكري. فناهيك عن أن وجود إسرائيل ذاته بات محل تهديد خطير بعدما تعرى تماما ضعف الردع الاستراتيجي لإسرائيل؛ فإن احتمالات حرب إقليمية واسعة بين إيران وإسرائيل، باتت قاب قوسين أو أدنى، خاصة في ظل حكومة إسرائيلية يمينية.

ويمكن تلامس هذه المعضلة من مسيرة التعاطي الأمريكي مع حرب غزة؛ إذ ما لبث أن هزمت إسرائيل عبر طوفان الأقصى، حتى أرسلت واشنطن أكبر حاملة طائرات لمساندة إسرائيل، وردع خصومها، وعلى الأرجح لعرقلة حرب إقليمية شاملة. لكن سرعان ما شهد الموقف الأمريكي بعض التطورات التي تشي بعدم الرغبة المطلقة في التصعيد، ومنها الدفع بمسألة "حل الدولتين".

ملخص البيان، على الرغم من ان المنطقة كانت وستظل معضلة لواشنطن تفاقمت بشدة بعد طوفان الأقصى. إلا أنه من المستبعد تماما أن تدفع واشنطن إلى إعادة تركيزها في المنطقة إلى ما قبل 2009؛ وينطوي ذلك - رغم معارضة داخلية أمريكية قوية - على وجاهة واقعية. إذ من جانب لم تعد المنطقة تمثل أهمية حيوية استراتيجية كبيرة بسبب تراجع أهمية النفط، ومن جانب آخر هناك ما هو أخطر لا سيما التهديد الصيني الذي يستلزم تكثيف كافة الموارد والجهود لمواجهته. وعليه، ستحاول واشنطن موازنة هذه المعضلة، عبر إعادة اهتمامها نسبيا بالمنطقة، وتحميل الأعباء على حلفائها لا سيما العسكرية عبر تشكيل تحالف وشراكات أمنية كبيرة. والأهم، هو الضغط على إسرائيل إلى أقصى حد لمنع حرب إقليمية ستضطرها إلى التدخل بشكل مباشر، والاستمرار لعقود في الانغماس في المنطقة. وأخيراً، إعادة تهيئة المنطقة لخطط واسعة لهندستها لا سيما التطبيع.

("الشرق") القطرية

يتم التصفح الآن