ثقافة

"المقاومة الثقافية".. معركة إعادة تشكيل الوعي العالمي!

بيروت - حنان حمدان

المشاركة

هي المرة الأولى، التي تمثُل فيها إسرائيل أمام القضاء الدولي على خلفية الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدها في محكمة العدل الدولية في لاهاي لمقاضاتها بجريمة ارتكاب "إبادة جماعية" ضد الفلسطينيين، ما شكّل إدانة معنوية وأخلاقية للاحتلال أمام أعلى هيئة قضائية أممية، بمعزل عن قرار المحكمة وافتقارها إلى سلطة تنفيذ أحكامها جبرًا على الأطراف، وهو ما يبقى من صلاحية واختصاص مجلس الأمن الدّولي المكبّل بالفيتو الأميركي.

هذه السابقة القضائية التاريخية، سبقتها "إدانة شعبية دولية" للجرائم الإسرائيلية جسّدتها موجة التظاهرات العالمية التي عمّت عواصم ومدن وشوارع الغرب تضامنًا مع أهل غزّة، ما يحاكي واقعًا جديدًا طارئًا على مستوى "إعادة تشكيل الوعي" تجاه القضية الفلسطينية بعدما سقطت الأقنعة عن الوجه الحقيقي لإسرائيل أمام الرأي العام العالمي وتبدّدت الغشاوة التي جهدت الحكومات الغربية في وضعها أمام أعين شعوبها لطمس جوهر الصراع الفلسطيني المزمن مع كيان استيطاني غاصب للأرض والحقوق على مرّ أكثر من سبعة عقود.

هذا التحوّل الذي طرأ على المشهد، هو "تحوّل مفصلي"، برأي خبراء في العلاقات الدولية، "يؤسس لتبدّل المزاج الشعبي الغربي من الدعم الأعمى لإسرائيل إلى الوقوف إلى جانب الفلسطينيين وقضيتهم المحقة، من خلال النظر بـ"معيار واحد" إلى الحقوق والحريات الأساسية على اعتبار أنها لا تختلف من شعب إلى آخر على أساس العرق والدين والجنسية، لا سيما وأنّ الأكثرية في الغرب لطالما اعتادت التعاطي مع الفلسطيني وكأنه "إنسان بدرجة أقل" من غيره، وهو ما تبدى بوضوح على سبيل المثال مؤخرًا في "ازدواجية المعايير الغربية" الفاضحة بين قضية أوكرانيا ودعم وتأييد حق شعبها في التصدي لاحتلال أراضيه، مقابل حجب هذا الحق نفسه عن الشعب الفلسطيين ودعم وتأييد المحتل لأراضيه"!.

لكن وأمام ما بدا من انحياز فجّ من الحكومات الغربية لآلة القتل الإسرائيلية، برز في المقابل ارتفاع أصوات غربية تدعم القضية الفلسطينية، انضمّ إليها حتى يهود مقيمون في نيويورك ورافضون للسياسات الصهيونية، فخرجوا في أكثر من مناسبة في تظاهرات حملوا خلالها لافتات كُتب عليها "NOT IN OUR NAME - ليس باسمنا" في إشارة إلى رفض ارتكاب مجازر الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين باسم اليهود، وأخرى تنادي بوقف "الفصل العنصري الإسرائيلي"، علمًا أنّ استطلاع رأي أجراه المعهد الانتخابي اليهودي في عام 2021 شمل عيّنة مكوّنة من 800 ناخب أظهر أنّ 25% من اليهود الأميركيين يعتقدون أن "إسرائيل دولة فصل عنصري".

هذه التحرّكات التي عمّت البلاد الغربية، "ليست سوى تراكم جهد ووعي تجاه القضية الفلسطينية وأحقيّتها، ساهم فيه مثقفون ومؤثّرون عرب وغير عرب في كافة المجالات وعلى مختلف الأصعدة"، وفق ما تشير أوساط ثقافية معنيّة بهذه القضية، عبر إطلالات وحوارات على شاشات التلفزة الغربية مثل "بي بي سي" و"سي إن إن" لتسليط الضوء على حقيقة القضية الفلسطينية أمام المُشاهد الغربي المضلَّل تحت وطأة البروبغندا الإسرائيلية والغربية التي جرى ترويجها تاريخيًا عبر وسائل الإعلام، والتي بلغت ذروتها مع الترويج لخبر تنكيل "حماس" بالأطفال واغتصاب النساء وقطع رؤوس الأسرى الإسرائيليين خلال عملية "طوفان الأقصى"، قبل أن يتّضح زيف هذه الرواية واضطرار المسؤولين والإعلاميين الغربيين أنفسهم إلى الاعتراف بعدم صحّتها.

وهنا تكمن أهمية "المقاومة الثقافية" في مواجهة "تزوير الحق والحقائق وتحيّز المؤسسات الإعلامية والمحاورين في الغرب لإسرائيل، وفق الأوساط نفسها، التي لفتت الانتباه إلى "تصدي المعنيين بالقضية الفلسطينية، بجدارة ووعي وحكمة لفخ الإجابة عن أسئلة لا تصب إلا في خانة "إدانة النفس"، كمحاولة استدراجهم في الإعلام الغربي للإجابة على ما بدا "سؤالًا موّحدًا" من قبل المحاورين الغربيين منذ اللحظة الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة: "DO YOU CONDEMN HAMAS؟" ("هل تدين حماس؟")، محاولين من خلال هذا السؤال جرّ ضيوفهم المدافعين عن الحق الفلسطيني، وأبرزهم السفير الفلسطيني في لندن حسام زملط، إلى الإقرار بإدانة "حماس"، من أجل تبرئة أو تبرير أفعال إسرائيل الإجرامية وتظهيرها في صورة "الدفاع عن النفس" وعزل ما جرى في "طوفان الأقصى" عن السياق التاريخي للاحتلال والاستيطان والحصار وسلب الفلسطينيين أراضيهم وحقهم القانوني والإنساني في الوجود".

والأمثلة تطول على هذا المنوال، كما حصل في الآونة الأخيرة مع أمين عام حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي، خلال مقابلة أجراها مع المذيعة البريطانية جوليا هارتلي بروير، التي حاولت إلصاق تهمة "التحيّز ضد النساء" به، بعدما بيّن تضليلها الجمهور وأثبت ضعف حججها الهادفة إلى تبرير العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة.

وكذلك فعل مؤثرون كثر، خصوصًا على مواقع التواصل الاجتماعيّ، حين حوّلوا محتواهم الثقافي باتجاه التعريف أكثر بالقضية الفلسطينية وما يجري في الأراضي المحتلة، باللغتين العربية والإنكليزية، كالمؤثرة الفلسطينية والمهندسة المعمارية مرام الشيخ المقيمة في السويد، إذ خصصت مشاركاتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي للحديث عن فلسطين، وكان لافتًا قولها: "الحياد خيانة، الصمت خيانة واعتياد المشهد خيانة" في إشارة إلى ما يتعرّض له الفلسطينيون. ومرام "فتاة النرد"، كما تُطلق على نفسها، هي صانعة محتوى مهتمة أساسًا بإحياء اللغة العربية. 

هذا الدور الذي يلعبه المثقفون والمؤثرون، عرب وفلسطينيون، هو "فعل مقاومة" لا يقل أهمية عن فعل المقاومة الميدانية في مواجهة المحتل والمشروع الصهيوني، الإسرائيلي والعالمي على حد سواء، ولا بدّ بالتالي من تفعيل دوره، خلال فترة الحرب وبعدها، بوصفه "مقاومة ثقافيّة" تٌعنى بمراكمة عملية التأثير في الرأي العام الغربي والدولي، ضمن إطار معركة "إعادة تشكيل الوعي العالمي" بأحقية القضية الفلسطينية، توصّلًا إلى انتزاع الشعب الفلسطيني حقّه المسلوب في المحافل الدولية.. بعد طول تسويف وانتظار.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن