في هذا السياق، كتبت رفائيل مزون، وهي إحدى أكبر المتخصصين في القانون الدولي، مقالًا هامًا في صحيفة "l’Humanité" الفرنسية بيّنت فيه أنّ الشكوى جنوب أفريقية لها مسوغاتها القوية التي لا يمكن دحضها علميًا.
بالاستناد إلى المواثيق والتشريعات الدولية والحالات المماثلة سابقًا، خلصت الباحثة المرموقة إلى أنّ كل أركان جريمة الإبادة الجماعية متوفرة في الحرب الإسرائيلية على غزّة: من تدمير شامل للمنشآت الأهلية وتقتيل المدنيين الذي زاد على واحد بالمائة من سكان القطاع، والتعرّض لشعب تحت الاحتلال، فضلًا عن تصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين التي تتسم بجلاء بإرادة الإبادة.
ولقد رجعت مزون إلى خبراء المنظمة الأممية المكلّفين بحقوق الإنسان، التي ذهبت في مجموعها إلى تبني هذا التشخيص الذي من الصعب نفيه.
ومع ذلك، لا تزال المواقف الغربية رافضة لاتهام إسرائيل بالضلوع في جرائم الإبادة الجماعية، وإن اعترف بعضها على استحياء أنّ ردة فعل تل ابيب لم تكن متوازنة مع "حق الدفاع الناس".
المؤرخون الإسرائيليون الجدد بيّنوا أنّ مشروع الإبادة الجماعية شكّل محورًا ثابتًا في السياسات الإسرائيلية منذ ١٩٤٨
الواقع أنّ للحرب الراهنة جوانب أربعة لا بد من التمييز بينها وهي: جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة التطهير العرقي، وجريمة الإبادة الجماعية.
جرائم الحرب، وفق تعريف الأمم المتحدة، تتعلق بانتهاكات القانون الدولي الإنساني في حالات النزاع المسلح، وفي مقدمتها تعريض المدنيين غير المعنيين بالمواجهة للقتل أو الإصابة. أما الجرائم ضد الإنسانية، كما قننتها الاتفاقيات الدولية وبالخصوص معاهدة روما، فتعني التجاوزات الكثيفة ضد الشعوب أو المجموعات المدنية ومن بينها التقتيل والاعتداءات الجنسية والتهجير القسري والاسترقاق والتعذيب والتمييز العرقي. بينما التطهير العرقي هو من الجرائم ضد الإنسانية ويتعلق بالإجراءات والممارسات الساعية إلى تدمير مجموعة عرقية أو دينية عن طريق العنف والترحيل القسري.
ولا شك أنّ الإبادة الجماعية هي المستوى الأخطر من هذه الانتهاكات، حتى لو كانت المقولة ظهرت في الأصل حكرًا على الجرائم النازية ضد اليهود، وإن كانت استُخدمت لاحقًا في الساحتين الرواندية والبوسنية.
وعلى الرغم من الحساسية الإسرائيلية من الإتهام بالقيام بجرائم الإبادة الجماعية لأسباب تاريخية معروفة، إلا أنّ المؤرخين الإسرائيليين الجدد، وخصوصًا إيلان بابيه وإيفي شلايم، بيّنوا في أعمال علمية دقيقة أنّ مشروع الإبادة الجماعية للفلسطينيين شكّل محورًا ثابتًا في السياسات الإسرائيلية منذ ١٩٤٨ وهو اليوم الأفق الوحيد لمخطط الاستيطان والتهويد لمنع نشوء دولة فلسطينية مستقلة.
ومع أن إسرائيل والدول الغربية الداعمة لها نجحت في تخلي الجمعية العامة للأمم المتحدة عن القرار الشهير الذي نص على المساواة بين الصهيونية والعنصرية، إلا أنّ هذه الفكرة بدأت اليوم تنتشر على نطاق واسع في الجامعات ومؤسسات المجتمع المدني ووسائط الاتصال والإعلام في العالم الغربي بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية.
إسرائيل تجد نفسها اليوم أمام أزمة أخلاقية حادة تدمّر كليًا شرعية ورمزية "الدولة اليهودية"
في ١٤ يناير، كتب جدعون ليفي في صحيفة "هآرتس" متسائلًا ماذا يمكن أن نسمي ما حدث في غزّة من أعمال فظيعة إذا لم تكن داخلة في مفهوم الإبادة الجماعية؟ وقد نبّه ليفي وآخرون إلى أنّ إسرائيل تجد نفسها اليوم أمام محنة غبر مسبوقة تتمثل في كون الدولة التي خرجت من المحرقة النازية تُتهم بالجرائم نفسها التي قضت على ملايين اليهود، بما تنتج عنه أزمة أخلاقية حادة تدمّر كليًا شرعية ورمزية "الدولة اليهودية".
إنها المعركة الكبرى للوصول إلى الضمير العالمي، ولا بد من خوضها على أرضية القانون والأخلاق والحقوق.
(خاص "عروبة 22")