بدأ هذا العقد بهيمنة الفرس على الخلافة العباسية في عصرها الأول، قبل أن تبدأ هيمنة الأتراك، بعنفوانهم العسكري وضعفهم الحضاري، على العصر العباسي الثاني. وقد تدعّم هذا العقد الرعوي بالاجتياح التتري، فالتتار بدو رحّل بالأساس، يتميّزون بالقوة والهمجية ولا يملكون ثقافة تذكر، كما يفتقدون إلى البناء الاقتصادي الذي يكفل إعاشتهم، ولذا كان هجومهم على العالم العربي محض ممارسة لنشاطهم المعتاد، أي اقتصاد الغزو، حيث تكون القوة العسكرية واستخداماتها في السلب والنهب هي الوسيلة المثلى لكسب العيش، ومن ثم مثلوا تطبيقًا معياريًا لنموذج السلطة الرعوية، استمر سائدًا في العصر المملوكي ثم العثماني في مطلع القرن العشرين دون ممانعة عربية تذكر.
حاول جنرالات السياسة العربية صياغة مجتمعاتهم على منوال التنظيم العسكري
عندما سقطت الخلافة العثمانية 1924م، وزال الاحتلال الأوروبي منتصف القرن العشرين، بدا وكأنّ المجتمعات العربية قد أدمنت نموذج السلطة الرعوية فلم تعد تقاومه بل صار لديها قابلية الخضوع لأي قوة ترثه، خصوصًا النخب العسكرية التي طالبت بالاستقلال أو حصلت عليه. ومن ثم تأسست الدولة الوطنية العربية الوليدة، ربيبة حركة التحرّر القومي، على قاعدة الشمولية السياسية وتمدّد الجيش في الحياة المدنية، حيث حاول جنرالات السياسة العربية صياغة مجتمعاتهم على منوال التنظيم العسكري وما ينطوي عليه من تراتب قيادة يعتبرونها أداةً لتحقيق الانضباط وسرعة اتخاذ القرارات والقدرة على الإنجاز.
إنه النمط الذي لم يعرفوا غيره، ولا يستطيعون التكيّف مع نقيضه المدني، القائم على التعدّد والاختلاف، فمفردات كالحرية والتعددية والنزعة الفردية، تتبدّى للجنرال نزعات عبثية، حاملةً لبذور تفسّخ مجتمعي وفوضى سياسية، يتوجّب الخلاص منها ليبقى المجتمع متماسكًا غير منقسم بين فرقاء متصارعين، ويظلّ الوطن أمنًا غير مخترق من أجانب متآمرين.
استعار العرب مفهوم "القومية العضوية" الذي يربط بينها وبين الدولة الشمولية القادرة على امتصاص المواطن
وبينما كان الألمان يتخلّون عن قوميتهم العضوية ونزعتهم العسكرية منتصف القرن العشرين، ليعيدوا بناء بلدهم على منوال النموذج الفرنسي في بناء الأمة على قاعدة العيش المشترك والاندماج الطوعي بين عموم المواطنين، كان العرب يستعيرون من الألمان مفهومهم القديم عن القومية العضوية، الذي يربط بينها وبين الدولة الشمولية/ البروسية، القادرة على امتصاص المواطن/ الفرد الحر وإذابته في روحها الجمعية. وفي الوقت الذي كان الألمان يتطهّرون من النزعة التوسّعية وينسجون ثوب الاتحاد الأوروبي من خيوط الوحدة الطوعية، كان بعض العرب يلتمّسون النموذج البسماركي في ترتيب العلاقة مع بعضهم الآخر، إلى الحد الذي غزا معه صدام حسين، باسم القومية العربية، دولة مستقلة كالكويت، اعتبرها محافظة شاردة، ليجري حصار العراق وتدميره، وخصمه من رصيد القوة العربية، وصولًا إلى ما نحن عليه الآن من هوان استراتيجي.
بغياب المواطنة الدستورية عن العقد الاجتماعي، باتت الأقليات العرقية والمذهبية، ثغرات في الجسد العربي، بقدر ما كانت هدفًا لنزوات نخبه الشمولية. فصدام، في لحظة يأسه، اقتحم مناطق الأكراد بالأسلحة الكيماوية، محفزًا رغبتهم في الانفصال. الحال ذاته تكرر مع الأمازيج والزنوج، في المغرب العربي والسودان، بل إنّ الزنوج حققوا بالفعل حلمهم الانفصالي. ولولا أنّ الله قد حبا مصر بمكوّن مسيحي نادر في وطنيته لعانت مثل جيرانها.
يتعيّن على الدول العربية مغادرة مربّع العقد الاجتماعي البدائي والشمولية المطلقة إلى عقد اجتماعي حديث
اليوم، إذ يعلو ضجيج الانقسامات العرقية والدينية والمذهبية في اليمن والعراق وليبيا وسوريا ولبنان، يبدو لنا أنّ الدولة الوطنية العربية تتجرّع من ذلك الكأس المرير، إلى درجة العلقم، الذي كانت سقت منه جلّ مكوّناتها طيلة القرن العشرين، عندما فشلت في دمجها واستيعابها، فصارت مع بداية القرن الحادي والعشرين قنابل موقوتة داخله تستغلّها الدول الكبرى في العالم والإقليم، في شد أطرافها وتقويض استقلالها.
ومن ثم يتعيّن على تلك الدولة، بسرعة وحسم، أن تغادر مربّع العقد الاجتماعي البدائي والشمولية المطلقة إلى عقد اجتماعي حديث، يقوم على المواطنة الدستورية، والحقوق الفردية، كي تبدأ رحلة الخروج الآمن من الكهف المظلم، أما الإبطاء والتردّد فلن يفرزا سوى المزيد من التمزق والتشرذم.
(خاص "عروبة 22")