بالنسبة للمنطقة العربية، يُعتبر المحدّد الديمغرافي من بين النقاط التي طالما توقفت عندها مجموعة من القراءات البحثية التي اشتغلت على ظاهرة الحركات الإسلامية، باعتباره أحد أسباب انتشار الظاهرة موازاةً مع أسباب أخرى تدور في فلك تأثير الأدبيات الإسلامية الحركية (حسن البنا، أبو الأعلى المودودي، سيد قطب واللائحة تطول)، أو تبعات هزائم نكبة 48 ونكسة 67، أو ازدواجية القوى العظمى في التعامل مع القضايا العربية والإسلامية المصيرية.
كان المحدّد الديمغرافي إذن في صلب تلك الأسباب، وكان يقصد به تأثير الهجرات القروية نحو المدن، ارتفاع نسبة الكثافة السكانية في أحياء الهامش والفقر، الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وأسباب في هذا السياق ساهمت في تغلغل الخطاب الإسلامي الحركي.
بمعنى آخر، الفائض السكاني الصرف الذي تحلم به الدول الأوروبية اليوم، كانت بعض نتائجه من بين الأسباب التي أفضت إلى ارتفاع أسهم الحركات الإسلامية، بكل التبعات السياسية والدينية والاقتصادية وحتى الاستراتيجية التي أفرزتها تلك التبعات.
تيارات اليمين الأوروبي تجد نفسها مضطرة إلى إعادة النظر في خطابها المتشدّد أو العنصري ضد الأجانب
نأتي للمفارقة الخاصة بالسياق الأوروبي الغربي، حيث أصبحنا نعاين بين الفينة والأخرى صدور تقارير بحثية، رسمية أو عن هيئات غير حكومية، ذات صلة بالموضوع، تكاد تكون في صيغة إنذارات موجهة إلى دوائر صناعة القرار، أكثر منها موجهة إلى إخبار الرأي العام، خاصّة أنّ هذا الأخير، صعب عليه استيعاب السياقات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالموضوع، لأنّها تهم مستقبل النمو الاقتصادي للدولة المعنية، بتعبير أهل الشأن.
في هذا السياق الأوروبي، الفرنسي نموذجًا، عاينا مفارقة تاريخية جرت في ظرف أسبوعين فقط: في نهاية كانون الأول/ ديسمبر الماضي، صدر قانون جديد يهمّ الهجرة بهدف الحد منها، وفي منتصف الشهر الجاري، أعْلِن رسميًا في فرنسا نفسها عن تسجيل تراجع بنسبة 6,6% من عدد المواليد في العام 2023، وِفق أرقام نشرها المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية، وحسب المعهد نفسه، يتعلّق الأمر بـ"أدنى مستوى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية"، أي منذ 1945، ومرد هذا التراجع القياسي، مرتبطٌ بانخفاض حاد في معدل الخصوبة، الذي بلغ 1,68 طفل لكل امرأة العام الماضي مقارنة بـ1,79 في عام 2022.
هذه أرقام أكثر من مزعجة لقصر الإليزيه من جهة، ما دامت تقوّض أهداف قانون الهجرة سالف الذكر، ومقلقة على أكثر من صعيد لليمين الفرنسي المعادي للمهاجرين، وأغلبهم من المنطقة العربية، وخاصّة من دول المغرب العربي.
بسبب نتائج هذا التقرير الرسمي، عاينا فورة في الملفات الإعلامية المواكبة له، وليس صدفة أن تكون المواكبة الإعلامية أكبر في المنابر اليمينية بالتحديد، من قبيل ما نشرته يومية "لوفيغارو" (أخبار، حوارات، قراءات في كتب.. إلخ)، بعناوين دالة: "أرقام الخصوبة.. اضطراب المشهد الديمغرافي في فرنسا"، مقال رأي، عدد 15 كانون الثاني/ يناير الجاري؛ "إنّها نهاية استثناء فرنسي في أوروبا"، عنوان حوار مع خبير في الموضوع، عدد 17 كانون الثاني/ يناير الجاري؛ "السن.. عامل رئيسي في العقم"، عنوان حوار مع الباحث روني فريدمان، مؤلف كتاب "طغيان المواليد"، عدد 19 كانون الثاني/ يناير الجاري، ضمن عناوين أخرى تلخص الشيء الكثير. (وطبيعي أن تكون المتابعة الإعلامية مختلفة في المنابر اليسارية، أو المعادية لخطاب اليمين، ونخصّ بالذكر متابعات الثلاثي "ليبراسيون"، "لوموند" و"الهومانيتي").
استقبال ألمانيا أكثر من 800 ألف لاجئ خلال الأزمة السورية كانت خطوة تصبّ في مصلحة الأمن الديمغرافي الألماني
في صلب هذه المفارقات، تجد تيارات اليمين الأوروبي نفسها مضطرة إلى إعادة النظر في خطابها المتشدّد أو العنصري ضد الأجانب، وفي هذا السياق، أعلنت جورجيا ميلوني رئيسة الحكومة الإيطالية وفيكتور أوربان رئيس الوزراء المجري، بأنّهما يسمحان باستقبال مهاجرين جُدد بعد أن بنيا طوال سنين سياساتهما على خطابات معادية للهجرة.
في السياق نفسه، يتذكّر الرأي العام الخطوة الدالة التي قامت بها ألمانيا في العام 2015، عندما استقبلت أكثر من 800 ألف لاجئ خلال الأزمة السورية، وإن كانت بعض الأصوات قد قرأت الخطوة حينها في سياقها الإنساني، فالأمر مختلف مع خبراء النمو الديمغرافي لأنّ تلك الخطوة كانت تصبّ في مصلحة الأمن الديمغرافي الألماني.
(خاص "عروبة 22")