هذا القرار الصادر في الدعوى المرفوعة من جنوب أفريقيا اعتبره بعض المراقبين "أقل من مستوى الحدث"، إذ لم يتضمن نصًا صريحًا بالوقف المطلق للعمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع، ولهذا السبب أبرزت الصحف الإسرائيلية ووسائل إعلام غربية عُرفت بدعم السردية الإسرائيلية أنّ محكمة العدل لم تقضِ بوقف إطلاق النار.. إلا أنّ التعامل السياسي من الأطراف المباشرة للحرب أكد "الأهمية القصوى" لهذا القرار على المستويين القانوني والسياسي، حيث رحبت حكومة فلسطين وحركة "حماس" بالقرار واعتبرتا أنه إعلاء للشرعية الدولية وانتصار لشعب غزّة، بينما في المقابل هاجم قادة الاحتلال المحكمة، فاعتبرها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو "تمنع بلده من حماية نفسها"، ونعتها وزير الأمن القومي إيتمار بنغفير بـ"معاداة السامية" وضرب وزير المالية يتسلئيل سموتريتش بالقرار عرض الحائط، مُجددًا دعوته إلى "تهجير شعب غزّة" ومتهمًا المحكمة بـ"النفاق والكذب".
ومع أنّ محكمة العدل الدولية لا تملك وسيلة تنفيذية تضمن تطبيق قراراتها على أرض الواقع، ولا معاقبة إسرائيل حال عدم التزامها بالتدابير المطلوبة، وحتى إذا لم تُقدّم للمحكمة تقريرًا عن التطورات بعد شهر كما تضمّن منطوق الحكم، إلا أنّ الغضب الرسمي الإسرائيلي عكس صدمة كبرى من قرار المحكمة لـ"أسباب سياسية وقانونية وتاريخية" ينبغي التمعّن فيها لاستشعار أنه قرار يُمثّل بحق "سابقة تاريخية"، يجب البناء عليها واستغلالها بقوة في جميع المحافل الدولية.
أوّل الأسباب؛ أنّ هذا القرار القضائي هو الأول الذي يصدر ضد إسرائيل من محكمة العدل الدولية ويدينها بارتكاب صور من الجرائم ضد الإنسانية.. نعم لا يمكن وصف قرار التدابير المؤقتة بأنه "حكم إدانة"، لكنّ حيثيات القرار أكدت بما لا يدع مجالًا للشك ارتكاب إسرائيل للعديد من المخالفات لاتفاقية منع الإبادة الجماعية، بدءًا من التحريض السياسي وحتى التهجير القسري مرورًا بـ"قتل عدد هائل من الفلسطينيين، وتدمير عدد ضخم من المنازل، والقضاء على سُبُل العيش، وتدمير المنظومة الصحية"، واستندت المحكمة في ذلك إلى تقارير المنظمات الدولية وتصريحات القادة الصهاينة ذاتهم، بل إنها ناقشت ادعاءاتهم الكاذبة بسعيهم لتحسين الوضع وإدخال المساعدات، واعتبرتها غير كافية.
وعلى مدار عقود الصراع العربي الإسرائيلي لم تصدر أي محكمة دولية قرارًا يتضمّن إدانة مسلك إسرائيل الإجرامي في ميدان الحرب أو حالات العدوان، حتى أنّ الفتوى الوحيدة التي صدرت سابقًا ضد إسرائيل من محكمة العدل الدولية عام 2004 كانت بعدم مشروعية إنشاء الجدار العازل بناءً على طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة. هذا الأمر يؤكد فرادة قرار الأمس وأسبقيّته التي تُزعج الإسرائيليين الذين استمرأوا لثمانين عامًا صمت المجتمع الدولي على العصف بالحق الفلسطيني والعربي.
وضع المنظومة الدولية أمام مسؤولياتها
أما السبب الثاني؛ فيتمثّل في تعدّد الاستشهادات التي استندت إليها المحكمة، وقوّتها ونجاعتها في إثبات صور الإبادة الجماعية، وهو ما يرجّح الحكم ضد إسرائيل عند نظر موضوع القضية، لكن ذلك قد يستغرق سنوات طويلة، غير أنّ ثبوت وقوع صور متعددة من الجريمة في ظرف أقل من أربعة أشهر، بالصوت والصورة وبجميع الأدلة والقرائن الممكنة، أمر سيصعّب مهمة إسرائيل في الدفاع عن نفسها مستقبلًا.
ويرتبط السبب الثالث للغضب الإسرائيلي؛ بالتأثير غير المباشر على حملتها العسكرية، إذ إنّ قرار المحكمة سيكون عاملًا مشجعًا ومحفزًا لحراك قضائي كثيف داخل حدود الدول الغربية الكبرى، كالولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا لوقف دعم إسرائيل، بل وملاحقة القادة السياسيين المؤيدين لها في مسعاها للإبادة الجماعية، مما قد يفت في عضد هؤلاء ويجعلهم أكثر تحسسًا للإلحاح الصهيوني، وربما أكثر قبولًا لدعوات وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب.
تستمد إسرائيل قدرًا كبيرًا من حمايتها الدولية من شبكة المصالح المعقدة التي تربط اللوبي الصهيوني بالولايات المتحدة والعواصم الأوروبية، فتضمن المساندة المطلقة أو الصمت على جرائمها، ولذلك يفزع قادتها من تهديد حالة التواطؤ، كما كانوا يعتقدون – على الأرجح - أنّ التصويت داخل المحكمة لن يكون بأغلبية تقترب من الإجماع، ففي مناسبة نادرة يتفق القضاة المنتمون للولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وألمانيا واليابان سويًا مع قضاة الهند والبرازيل وأستراليا وسلوفاكيا وجامايكا ولبنان والمغرب والصومال على جميع التدابير المطلوب فرضها لحماية شعب غزّة، وهذا سبب رابع لغضب إسرائيل من انفضاح جرائمها وفشل دفاعها الذي ضمّ نخبة من أكبر محامي العالم في التصدي للأدلة الدامغة المقدّمة من جنوب أفريقيا.
ويؤدي هذا – اقترانًا - إلى السبب الخامس؛ وهو أنّ قرارًا بهذه القوة والشمول، مع ارتباط الحيثيات بالمنطوق، ربما يكون عامل ضغط على مجلس الأمن ومجموعات داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة لتبني مشاريع جديدة لقرارات تزيد الضغط على إسرائيل، لا سيما وأنّ المجلس الآن أمام مسؤولية تاريخية توجب عليه أدبيًا التحرّك لإعلاء الشرعية الدولية، أخذًا في الاعتبار أنّ ميثاق الأمم المتحدة يخلو من وسيلة تُلزم المجلس بتنفيذ قرارات المحكمة بعد إحالتها إليه بواسطة الأمين العام للأمم المتحدة، فيمكنه تجاهلها تمامًا ويمكنه الاكتفاء بالاستشهاد بها في قرار يحمل بعض أو كل العناصر التي أمرت بها، فحلول الصراعات العسكرية والدبلوماسية تبقى رهن تفاهمات الدول الخمس الكبرى المتمتعة بحق النقض (فيتو).
حماية قانونية غير مسبوقة للشعب الفلسطيني
غير أنّ السياق القانوني للقضية الفلسطينية بخصوصيتها الاستثنائية واستمراريتها لثمانية عقود يُكسب قرار المحكمة أهمية أخرى خفية، اقتصر ذكرها في الحيثيات دون المنطوق، وتُمثّل سببًا سادسًا للغضب الإسرائيلي، ألا وهي الاعتداد بالكيان المستقل والمميّز للشعب الفلسطيني وإضفاء الحماية الدولية عليه والتأكيد على استفادته من اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وذلك بخلاف كل السرديات الصهيونية والأمريكية التي تواترت على محاولة منع الشعب الفلسطيني من حقوقه في مقرّرات الشرعية الدولية.
ففي فتوى الجدار العازل أكدت محكمة العدل الدولية عدم مشروعية تصرفات إسرائيل داخل الضفة الغربية لحرمان الشعب الفلسطيني من حق تقرير المصير وحقوقه وحرياته الأساسية. وبالأمس، بعد نحو عشرين عامًا، تؤكد المحكمة أنّ هذا الشعب "يُمثّل مجموعة إثنية عرقية مميّزة يقع جزء كبير منها في قطاع غزّة ويتوجب أن يستفيد من اتفاقية منع الإبادة الجماعية، بحظر كل صور الجرائم التي تستهدفه كليًا أو جزئيًا وتحرمه مقومات الحياة والاستمرارية".
إنّ هذه السطور التي وردت في الفقرة الخامسة والأربعين من قرار المحكمة ترد بشكل واضح على ادعاء إسرائيل بعدم تمتع غزّة بالحماية الدولية، كما تصفع رؤية واشنطن التي حاولت مرارًا حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في التقاضي الدولي على سند من عدم تمتع دولته المستقلة بعضوية كاملة في الأمم المتحدة، فإذا به يحصل على الحماية – شأنه شأن الشعب الأوكراني وأقلية الروهينجا وشعب البوسنة - بدعوى رفعتها جنوب أفريقيا.
وعلى ضوء الأسباب الستة سالفة الذكر، فهناك العديد من المسارات القانونية والسياسية التي يمكن للدول المساندة للحقوق الفلسطينية أن تسلُكها سواء في الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، أو بالتواصل والحشد الدولي خاصة بمساعدة الدول الغربية صاحبة المواقف الإيجابية مثل بلجيكا وإسبانيا، بالتوازي مع إمكانية تفعيل نشاط المنظمات الحقوقية في العالم العربي وأفريقيا مع نظيراتها الغربية في ملاحقة الزعماء السياسيين الذين دعموا إسرائيل في ارتكاب الصور الإجرامية.
كما يضع القرار مسؤولية كبرى على عاتق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، الذي توافرت أمامه دلائل وشواهد عديدة - ربما أكثر مما توافر لمحكمة العدل الدولية - على الجرائم الإسرائيلية لكنه لم يُحرّك ساكنًا حتى الآن، علمًا بأنّ المحكمة الجنائية الدولية تملك مرونة أكبر في التعامل مع الجرائم ضد الإنسانية بموجب نصوص وتفسيرات أوسع من اتفاقية الإبادة الجماعية ذاتها، ووفقًا لنظام روما الأساسي الذي وقّعت عليه فلسطين وانضمّت إليه رسميًا وقضت المحكمة سابقًا بانطباقه على أراضيها وصلاحيّتها لرفع دعاوى ضد إسرائيل على ضوئه.
(خاص "عروبة 22")