بصمات

ملامح جديدة للرأي العام في الغرب

ما أبان عنه "طوفان الأقصى"، من جهة هزّاته الارتدادية في بلدان الغرب الأوروبي والأمريكي، هو أنّ قادة الرأي - حقيقة لا توهمًا – لم يعودوا هم أولئك الذين اعتدنا اعتبارهم كذلك: الشريحة العليا من المثقفين والمحللين السياسيين - هذا من جهة أولى. وأهل الصحافة في تجلياتها الثلاثة المعروفة (الناطقة والمكتوبة والمرئية) - من جهة أخرى. لقد أصبح من الواضح الآن وجود تباعد وتنافر كبيرين بين ما يدور من حديث في شاشات التلفزيون وفي مكاتب المحللين السياسيين، في أحاديثهم عن مجتمعاتهم، وبين الصورة المغايرة التي يعبّر بها الشارع عن آراء ومشاعر الناس في بلدان الغرب - بشقيه الأوروبي والأمريكي.

ملامح جديدة للرأي العام في الغرب

يدل هذا التباين بين النمطين من الوعي: وعي النخب ونساء ورجال الإعلام والموجهين له، في مقابل وعي آخر، يبدو أنّ المنتسبين إلى النمط الأول عاجزون عن إدراكه - والقصد به وعي رجل الشارع، الإنسان العادي بما أحدثه "طوفان الأقصى" من زلزال وما اقترن به من مفاجأة (كما هو الشأن في كل زلزال) ومع صدى الهزات الارتدادية في العالم وأثرها في الوعي الغربي الثقافي العام خاصة. يدل هدا التقابل بين نمطي الوعي المذكورين على قوة وصدق حقيقتين اثنتين ليس هناك من سبيل إلى إخفائهما أو التمويه عليهما.

التخريب المنهجي في غزّة ليس مما يمكن أن يُبقي الضمير الإنساني في حال تخدير من قبل "قادة الرأي" التقليديين

أما الحقيقة الأولى فهي أنّ قيادة الرأي وتكييف الوعي الثقافي العام في المجتمع الغربي المعاصر خاصة، لم تعد قصرًا على فئة الشريحة العليا من المثقفين والمحللين السياسيين، بجانب أهل الصحافة والمتحكمين في مصائرها، وإنما غدا تكييف الرأي العام وصناعة الوعي الثقافي العام المشترك بين الناس في الوجود الاجتماعي الواحد مزاحمًا من قبل قوى جديدة لها سلطة ضاغطة حاسمة، لا يملك "قادة الرأي" في التصوّر المعتاد، أو التقليدي، من الأمر شيئًا أمامها. ذلك أنها أكثر حضورًا، لأنها الأكثر قربًا، والأسرع في التأثير لأنها الأيسر تداولًا وهذه الخصائص كلّها تجتمع وتتآلف في وسائط التواصل الاجتماعي.

وأما الحقيقة الثانية التي تكشف الهزات الارتدادية في الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي (وكندا - بطبيعة الأمر بعض منه) فهي أنّ كيفيات النظر إلى الكوارث العظمى التي يشهدها العالم اليوم هي بصدد التبدل، أو هي على الأقل، تعيش أطوارًا حاسمة من التبدّل يعصف بجملة الآراء.

وصفوة القول إنّ مشاهد الإبادة الجماعية والتخريب المنهجي للأرض والإنسان في غزّة، والتصاعد اليومي المتواصل في أعداد الموتى من الأطفال والعجزة والنساء في غزّة، وحواليها، ليس مما يمكن أن يُبقي الضمير الإنساني نائمًا أو - بالأحرى- في حال تخدير من قبل "قادة الرأي" التقليديين.

الأطروحات التي ظلّت مألوفة دهرًا طويلًا دخلت بالفعل في طور الانتكاس

لا يعني لسان الشارع في عواصم البلدان الغربية ومدنها شيئًا آخر سوى أنّ الهزال والضمور الشديد يدبان بقوة إلى بؤر السلطة عند "قادة الرأي" التقليديين. ولو أنا أصخنا السمع لتبيّن لنا أنّ خدوشًا وشرخًا أخدا ينالان من أولئك القادة - وبالتالي فإنّ الأطروحات الكبرى التي عكف أولئك القادة على إعادة إنتاجها في صيغ مختلفة قد أخد الخلل ينال منها.

لا، ليس مغالاةً وليس إسرافًا في التفاؤل من أجل إشراقة يوم جديد أن نقول إنّ الأطروحات التي ظلّت مألوفة دهرًا طويلًا (إسرائيل ضحية النازية، معاداة السامية في الجرأة على انتقاد إسرائيل، نعت المقاومة بالإرهاب، وقرن هذا كله في معاني شتى بالإسلام) وما شاكل هذه التصورات كلها هي – بفعل الهزات الارتدادية لطوفان الأقصى – قد دخلت بالفعل في طور الانتكاس.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن