تقدير موقف

.. بل حكمت المحكمة!

صحيحٌ أن الـ29 صفحة التي ضمّت نص القرار المبدئي للمحكمة الدولية بشأن التدابير الاحترازية المطلوب اتخاذها في غزّة لتجنّب حدوث إبادة جماعية لم يشمل نصًا صريحًا يقضي بوقف فوري للحرب والأعمال العسكرية الإسرائيلية، إلا أنه من الصحيح أيضًا أننا استمعنا من رئيسة المحكمة إلى 35 دقيقة من الاتهامات الواضحة والصريحة للدولة العبرية ومسؤوليها باقتراف ما يمكن اعتباره في نهاية المطاف أعمال إبادةٍ جماعية أو تحريضٍ عليها.

.. بل حكمت المحكمة!

تقنيًا وإجرائيًا، لم تبدأ المحكمة بعد في نظر الموضوع ذاته والمتمثّل في اتهام جنوب أفريقيا لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، ولكن المهم هنا أولًا أنها رفضت الدفع الإسرائيلي بعدم الاختصاص، وهي النقطة التي ركّز عليها، سياسيًا بنيامين نتنياهو في تصريحاته الغاضبة، وقانونيًا فريق دفاعه في مرافعاتهم المرتبكة. أملًا في أن ينتهي الأمر (ها هنا)؛ لأسباب إجرائية، فيتسنى لعجلة البروباجندا الإسرائيلية أن تدور بفرية أنّ المحكمة الأعلى دوليًا برّأت الكيان الصهيوني، وأنّ أيّ صوت يعلو لاحقًا بمثل هذا الاتهام سيكون محض "معاداة للسامية". إلا أنّ الأمر، بمقتضى العدالة وضميرها لم ينته (ها هنا).

أكثر المتفائلين، حتى الذين انتظروا قرارًا لم يصدره مجلس الأمن بوقف الحرب لم يتصوّروا أنّ يصدر مثل هذا القرار بهذا الوضوح في الكلمات، بالنظر إلى تشكيل المحكمة والذي يضم هذه المرة أربعة قضاة من الدول الغربية المتواطئة تقليديًا مع إسرائيل؛ التي تدعي تبنيها للقيم الغربية وسط إقليم لا تعرف حكوماته مثل تلك القيم.

طبيعة التدابير الخمسة لن تتحقق واقعيًا إلا بإيقاف عجلة القتل والتدمير الممنهج

ربما لم تكن الضغوط بعيدة عن قرار المحكمة الدولية، وربما صحيح ما يقوله البعض من أنّ الضغوط الأميركية نجحت في تجنب إصدار قرار صريح بوقف إطلاق النار، ولكن هذا لا يمنع حقيقة أن فيما سمعناه في لاهاي، وعلى هامشه ما ينبغي أن نأخذه في الاعتبار:

1. أنّ القرار القضائي، وإن لم ينص صراحة على وقف إطلاق النار، إلا أنه نصّ على خمسة تدابير على إسرائيل القيام بها، ولديها مهلة شهر لتقديم ما يثبت التزامها هذا (وإلا) سيكون من حق المحكمة واقعيًا أن تقضي بما وراء ذلك. وإذا أخذنا في الاعتبار طبيعة التدابير الخمسة، لأدركنا أنها واقعيًا لن تتحقق إلا بإيقاف عجلة القتل والتدمير الممنهج الدائرة منذ أكثر من ثلاثة أشهر.

2. الأغلبية التي تصل إلى حد الإجماع: إذ من بين السبعة عشر قاضيًا لم يعترض على التدابير الخمسة، بالإضافة إلى السادس الذي يُلزم إسرائيل بتقديم تقرير يوضح التزامها بتلك التدابير في غضون شهر، سوى القاضية الأوغندية بالإضافة إلى القاضي الذي يُمثّل إسرائيل؛ بوصفها الدولة المدعَى عليها - بالمناسبة هو وافق على منع ومعاقبة التحريض على الإبادة الجماعية للفلسطينيين، في حين لم توافق القاضية الأوغندية، إلا أنه وبالمناسبة أيضًا كثير من السفراء الأوغنديين علّقوا على مواقع التواصل الاجتماعي، فيما يبدو أنه تعليق ممنهج: بأنّ السيدة لا تُمثّل إلا نفسها، وأنّ موقف أوغندا الداعم لحقوق الفلسطينيين يؤكده نمط تصويتها في الأمم المتحدة.

3. ما وجهته المحكمة إلى إسرائيل من اتهامات يتضمن إدانة وإن غير مباشرة لكل الحكومات التي ساعدتها وأيّدتها فى عملياتها العسكرية في غزّة. كما أنه سيمثّل إحراجًا حقيقيًا لها إن جرى التصويت في مجلس الأمن الأربعاء القادم على وقف إطلاق النار. بعد أن قالت المحكمة الدولية بوضوح إنّ "معظم العمليات العسكرية فى غزّة قد تكون جرائم إبادة جماعية".

4. لم يعد من الممكن للدول العربية المطبّعة تجاهل حقيقة أنّ إسرائيل باتت متهمة بارتكاب أخطر الجرائم ضد الإنسانية والقانون الدولي. لم نعد نتحدث عن الاحتلال، بل نتحدث عن الفصل العنصري والترحيل والتطهير العرقي والإبادة الجماعية.. ولا يوجد ما هو أسوأ من ذلك. وليسمح لي جدعون ليفي أن أستعير كلماته في هآرتس: "بعد 75 سنة من التبوّل على القانون الدولي بأكمله، حان الوقت لأن نتلقى منه، أخيرًا، لكمةً تأديبية".

5. رغم أنّ المحكمة، بطبيعتها عمدت إلى استخدام التعبيرات القانونية بديلًا عن التعبيرات السياسية، إلا أنّ بيان المحكمة في صفحاته التسع وعشرين يمثل إدانة كاملة أخلاقية وسياسية لإسرائيل وأفعالها. فضلًا عن أن لا أحد يمكنه أن يتجاهل حقيقة أنّ الدولة التي أخذت إسرائيل إلى ساحة القضاء كان زعيمها المؤسّس قدوة أخلاقية للعالم أجمع.

6. علينا ملاحظة أنّ هذه هي المرة الرابعة فقط في التاريخ التي تنظر فيها المحكمة الدولية في مسألة الإبادة الجماعية منذ توقيع الاتفاقية قبل خمسة وسبعين عامًا. القضية الأولى تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، وكانت بشأن محاولة صربيا والجبل الأسود إبادة السكان المسلمين البوسنيين في البوسنة والهرسك. واستمر التداول بشأنها عشر سنوات. أما القضيتين الأخريين، واللذين ما زالا قيد المداولة، فإحداهما بدأت 2019 بشأن إتهام ميانمار بإبادة أقلية الروهينغا المسلمة، والثانية رُفعت قبل عام واحد تتهم روسيا بأعمال إبادة جماعية في أوكرانيا.

قالت المحكمة الدولية كلمتها.. والكرة الآن في ملعب مجلس الأمن

إذن فقد قالت المحكمة الدولية كلمتها، أما الاسرائيليون الذين يعتبرون أنفسهم "فوق الجميع"، فقد كان ردهم الرسمي متسقًا مع نظرتهم الدينية تلك. نتنياهو قال إن هذه الاتفاقية لم تنشأ إلا لـ"حماية اليهود"، ومن العار أن تُستخدم لغير ذلك (!)

ورغم تعليمات رئيس الحكومة إلى الوزراء بعدم التعليق، كان مثيرًا أنّ وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش لم يتردد في أن يعلّق مؤكدًا ما وُجّه لإسرائيل من اتهامات: "على قضاة لاهاي القلقين على سكان غزّة، أن يدعوا دول العالم لاستقبالهم".. - لاحظ أولًا أنه لا يقول "الفلسطينيين". ولاحظ ثانيًا أنه يؤكد بكلامه هذا النوايا الإسرائيلية الواضحة لتهجير الفلسطينيين من سكان القطاع -.

وبغض النظر عن هزلية ما وجّهه وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير من اتهام لمحكمة العدل الدولية بـ"معاداة السامية" (!)، إلا أنه من الأرجح أن يلجأ الإسرائيليون إلى الألاعيب القانونية/السياسية المعروفة بأن تستدعي محاكمها المحلية بعض مسؤوليها لمساءلتهم على تصريحاتهم التحريضية التي استندت إليها المحكمة الدولية. وتدفع بذلك أمامها مدعيةً أنها تقوم بتنفيذ التزاماتها الواردة في القرار.

يبقى أنّ في إسرائيل التي استمرأت الإفلات من العقاب، كان لافتًا ودالًا أن يُركّز المعلّقون الإسرائيليون على ما يعرفه القانونيون من فارق بين declarative and operative law. محاولين طمأنة مستمعيهم إلى أنّ الثاني فقط هو ما يملك مخالب وأنيابًا، وأنّ هذا ليس حال قرارات المحكمة الدولية. كلامهم صحيح. فالكرة الآن في ملعب مجلس الأمن الذي يجتمع الأربعاء بطلب من الجزائر، عساه أن يمنح العدل ما يحتاجه من قوة تنفيذية.

حتى وإن تحصّنت الأفعال الإجرامية الإسرائيلية بالفيتو الأمريكي المألوف في مجلس الأمن، فيكفي أن لم يعد بوسع الدوائر الصهيونية، بعد ما سمعناه في لاهاي أن تشهر سيف "معاداة السامية" في وجه كل من يتهم إسرائيل بهذا الجرم أو ذاك، بعد أن أصبح اتهام الدولة العبرية بالإبادة الجماعية على لائحة أكبر هيئة قضائية دولية.

إسرائيل باتت "متهمة" بارتكاب الجريمة ذاتها التي مثّلت لعقود أساس مظلوميتها والأساس المعنوي والدعائي لقيام الدولة

الحاصل إذن أنه وإن كان من الصحيح قانونيًا أنّ المحكمة لم تبدأ بعد في نظر موضوع الدعوى، وهو الأمر الذي لن يبدأ قبل شهر، وربما لن ينتهي قبل أعوام. إلا أنه سياسيًا، وبرفضها الدفع الإسرائيلي بـ"عدم الاختصاص"، وفي نص ما سمعناه على مدى 35 دقيقة حكمت المحكمة، وقُضي الأمر. إسرائيل الآن باتت "متهمة" بارتكاب الجريمة ذاتها التي مثّلت لعقود أساس مظلوميتها، بل وربما الأساس المعنوي والدعائي لقيام الدولة ذاتها.

بل ربما يبقى من قبيل المفارقة أنّ من صاغ مصطلح "الإبادة الجماعية" قبل ما يقرب من الثمانية عقود، كان يهوديًا بولنديًا يدعى رافائيل ليمكين كان قد نجا من المحرقة، قبل أن تدفع الصهيونية المتطرفة أحفاده لارتكاب الجرم ذاته.

وبعد،

فإذا كنا نقول إن "من يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا"، فعلينا أن ندرك أنّ المعركة القانونية، وإن كانت قد بدأت قوية هكذا إلا أنها لم تنتهِ بعد. فالأهم من التدابير الاحترازية التي تم إقرارها، أو الأمر بوقف فوري لإطلاق النار، والذي لم يتم فعلًا إعلانه أنّ إسرائيل ستقف أمام المحكمة الدولية متهمة بالإبادة الجماعية، وهو أمر لو تعلمون عظيم. يبقى أنّ علينا واجب الاهتمام به.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن