وفي هذه المرة أيضًا، مع ظهور بعض المستجدّات في التفاعل بين مصر وإيران على خلفية حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزّة وأهمها الاتصال الهاتفي لأول مرة بين الرئيسين المصري والإيراني، من المتوقّع أن يصار إلى التحذير من انعكاسات عودة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين على العلاقات العربية والغربية وبالذات الأمريكية لمصر. ويتوقّف مقال اليوم عند هذا التحذير ويحاول مناقشته بشكل موضوعي.
مبدئيًا فإنّ كل دولة تبني سياستها الخارجية وفق رؤيتها الخاصة لمصالحها وتصوّرها لسبل الحفاظ على أمنها القومي، ومن المفهوم أنّ السياقين الإقليمي والدولي لهما تأثيرهما على قرارات الدول لأنها لا تتحرّك في فراغ ولأنّ الحدود القائمة بين الداخل والخارج انكمشَت إلى حدٍ بعيد، لكن في الأصل والأساس فإنّ قرارات الدول تنبع من المعطيات الداخلية. وكمثال فإنّ الرئيس السادات رأى أنّ مصلحة مصر الوطنية من وجهة نظره تقتضي توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل في عام ١٩٧٩، وقوبل هذا القرار برفضٍ عربيٍ شبه تام انعكس على تجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية.
علاقات كل الدول الخارجية مؤثّرة في حدود عدم تعارضها مع المصالح الوطنية
وهذا المثال ليس الغرض منه عمل تقييم لقرار الرئيس السادات ومدى صوابيته من الناحية السياسية أو انعكاساته على تماسك النظام الإقليمي العربي، لكن القصد منه هو القول إنّ قرارًا راديكاليًا على هذا النحو، مثّل التواءً عن موقف مصر من الصراع العربي-الإسرائيلي، تمّ اتخاذه بناءً على حسابات داخلية معيّنة لانعكاساته الإيجابية على الأمن القومي المصري.
وهناك العديد من الأمثلة الأخرى لقرارات أقل راديكالية لكنها كانت تعكس عدم تطابق وجهة النظر المصرية مع وجهات نظر عربية ودولية لدول صديقة، ومن ذلك قرار عدم التدخّل البرّي في اليمن مع انطلاق "عاصفة الحزم"، وعدم التورّط في الحرب الأهلية السورية، وعدم تحمّل أي مسؤولية فيما كان يُسمّى الناتو العربي ثم الإسلامي، ورفض تسليح أوكرانيا في حربها مع روسيا وفي المقابل استيراد سلاح من روسيا، وأخيرًا رفض المشاركة في التحالف الدولي لحماية الملاحة في البحر الأحمر.
ولو أخذنا هذا القرار الأخير لوجدنا أنّ مصر من أكثر الدول تضرّرًا من تهديد الملاحة في البحر الأحمر وانعكاسات هذا التهديد على إيرادات قناة السويس، لكن على الجانب الآخر لم تقبل مصر التورّط في تحالف الهدف منه الأساسي حماية المصالح الإسرائيلية في وقت تشنّ فيه إسرائيل حرب إبادة على الشعب الفلسطيني، ورأت أنّ التحالف يزيد التوتّر في البحر الأحمر ولا يقلّله.
ومن محصلة التفاعل بين مكافحة هذه المتغيّرات وحساب أوزانها النسبية، امتنَعَت مصر عن الانخراط فيما عُرف بتحالف الازدهار. ومن قبل اتخاذ هذه القرارات جميعًا كانت قرارات إبرام صفقة السلاح التشيكية وتأميم قناة السويس ودعم حركات التحرّر الوطني عربيًا وأفريقيًا، لها معارضون في الخارج.
والخلاصة أنّ علاقات كل الدول الخارجية مؤثّرة في حدود عدم تعارضها مع المصالح الوطنية. أما وأننا وصلنا إلى هذه النقطة يكون السؤال هو التالي: هل لمصر مصلحة في استئناف العلاقة مع إيران؟. والإجابة على هذا السؤال من عدة نقاط، الأولى؛ إنّ كون مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي ظلّت مقطوعة العلاقات مع إيران منذ عام ١٩٨٠ فإنّ هذا يعني أنّ مصر هي الاستثناء الذي يخالف القاعدة، وهو ما يستحّق المراجعة. وإذا كانت إيران تتدخّل في شؤون الدول العربية وهي تتدخّل فعلًا بل وتتوغّل أيضًا، وإذا كانت إيران صاحبة مشروع للهيمنة وهي فعلًا تملك مشروعًا امبراطوريًا من أيام الحكم الملكي لم تتغيّر إلا أدواته بعد الثورة الإسلامية، وإذا كانت إيران تحتلّ أراضي عربية وهي بالفعل تحتلّ، وإذا كانت إيران ترغب في حيازة القنبلة النووية وهي ترغب فعلًا في حيازتها رغم كل بيانات النفي الرسمية.. وإذا وإذا وإذا، فلماذا لم تمنع كل هذه المعطيات جميع الدول العربية - إلا مصر - من إقامة علاقات دبلوماسية مع إيران؟.
لو نظرنا إلى أبرز الصراعات الداخلية في المنطقة العربية سنجد أنها إما نشأت لأسباب طائفية أو اختلَطَت بها
النقطة الثانية؛ إنّ حرب غزّة كشفت المعلوم/المستور عن أبعاد المشروع الصهيوني الرامي إلى تصفية القضية الفلسطينية وأصبح قادة إسرائيل يجاهرون بالفم الملآن برغبتهم في تهجير أهل غزْة إلى أرض سيناء ويرفضون بكل وقاحة إقامة دولة فلسطينية، أفلا يكون ذلك إذن مدعاةً لإقامة علاقات مصرية متوازنة مع إيران لأنّ إسرائيل تمثّل تهديدًا أمنيًا خطيرًا لكليهما؟.
النقطة الثالثة؛ إنّ تطبيع مصر علاقاتها مع إيران، وقد قامت السعودية بهذا التطبيع من قبلها، يقلّل من الاحتقان المذهبي بحكم وزن هاتين الدولتين العربيتين في نطاق العالم الإسلامي، وهذه النقطة غاية في الأهمية لأننا لو نظرنا إلى أبرز الصراعات الداخلية الدائرة في المنطقة العربية سواء السياسية أو المسلّحة سنجد أنها إما نشأت لأسباب طائفية أو اختلَطَت بها.
النقطة الأخيرة؛ إنّ العلاقات بين الدول تقود لتفاوضها حول المشكلات القائمة بينها، أما القطيعة فإنها تجمّد تلك المشكلات وتبقي النيران من تحتها.
(خاص "عروبة 22")