الملاحظ أنّ النقاط العشر التي تضمّنتها الخطة عكست شعور الجانب الأوروبي والغربي بوجود أزمة في التمثيل الفلسطيني وفي قدرة الأخير على إدارة الدولة الفلسطينية حتى لو اعتبر أنّ إسرائيل مسؤولة عن جانب من هذا الوضع، إلا إنه ظل يعتبر أنّ المشكلة لها بُعدان، أحدهما سياسي يتعلق أساسًا بالاحتلال وأضيف له حاليًا مشكلة "حماس"، وله أيضًا بُعد ثاني "فني" يتعلق بشكل الحكم وإدارة هذه الدولة الوليدة، وهنا يتفق الداعمون لإسرائيل مع الداعمين للفلسطينيين على أنّ هذا البُعد يُعطّل تحركهم من أجل تحقيق الهدف السياسي وهو "حل الدولتين".
ولذا علينا ألا نندهش حين نجد بين ثنايا النقاط العشر التي قدّمها بوريل للاتحاد الأوروبي أفكارًا تعكس قلقًا حقيقيًا من ضعف القدرات الفلسطينية وخاصة بعد أن تعمّق الانقسام بين غزّة والضفة وحاصر الاحتلال السلطة وأضعفها، وأصبحت تعاني من الترهل وسوء الأداء والفساد، كل ذلك جعل هناك تخوفات غربية من قدرة السلطة الفلسطينية على إدارة الدولة الوليدة.
انحياز البعض الفج للسياسات الإسرائيلية لا ينفي وجود إخفاقات إدارية وفنية وسياسية يتحمّلها الجانب الفلسطيني
صحيح أنّ الخطة الأوروبية نصّت على أنّ عملية السلام يجب أن تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة "تعيش جنبًا إلى جنب" مع إسرائيل، و"التطبيع الكامل" للعلاقات بين إسرائيل والعالم العربي، ولكنه أضاف نقطة تتعلق بمساعدة الجهات الدولية الفاعلة على إعداد "أرضية للسلام" وبناء "بديل سياسي متجدد" لـ"حماس".
واللافت أنه لم يقصر دعوته لعقد مؤتمر سلام على أطراف الصراع فقط، إنما طالب بضرورة أن يحضره "مديرو المنظمات الدولية" وجعل هناك حضورًا للخارج والقوى الدولية في كل الخطوات التحضيرية السابقة واللاحقة لمؤتمر السلام، بل حتى في حال الوصول لتسوية سلمية فإنّ هناك تشككًا غربيًا في قدرة السلطة الفلسطينية على إدارة وحكم الدولة الوليدة.
يقينًا هناك أبعاد سياسية وراء هذا التشكك في القدرات الفلسطينية في الإدارة والحكم نتيجة انحياز البعض الفج للسياسات الإسرائيلية، إلا أنّ هذا لا ينفي وجود إخفاقات إدارية وفنية وسياسية يتحمّلها الجانب الفلسطيني وهي أمور يتحدث فيها حتى الأوروبيون المتعاطفون مع الحقوق الفلسطينية ويشيرون لغياب الحوكمة في كل مؤسسات السلطة والجمود السياسي والإداري وعدم تقديم نخب وقيادات جديدة وانتشار الفساد ناهيك عن الفشل في حل مشكلة الانقسام بين "حماس" والسلطة منذ عام 2007، حتى أصبحت جزءًا من مشكلة "اليوم التالي" لانتهاء الحرب الحالية.
ورغم أنه من المؤكد أنّ "حماس" قاومت وصمدت بشرف ولها فضل إحياء القضية الفلسطينية مرة أخرى على الواجهة العربية والعالمية بعد أن أرادت إسرائيل وحلفاؤها قتلها، إلا أنها لا تمتلك جناحًا سياسيًا مقبولًا دوليًا يمكن أن يجلس معه "بوريل" أو أي مسؤول غربي متعاطف مع الحقوق الفلسطينية كما حدث مع قادة منظمة التحرير، إنما هي بجناحها العسكري القوي، والسياسي الضعيف، مصنّفان كجماعة إرهابية.
المقاربة الغربية في التعامل مع الملف الفلسطيني فيها بالقطع جانب سياسي يتعلق بالانحياز لإسرائيل، لكن بلا شك لديها جانب آخر تصفه بـ"التقني" يتعلق بضعف وانقسام الطرف الفلسطيني، وأنّ الحوار مع كثير من المسؤولين الأوروبيين الذين يتبنون "حل الدولتين"، سواء لأنهم متعاطفون سياسيًا مع الحقوق الفلسطينية أو لأنهم يرون بشكل عملي أنّ هذا هو الحل الوحيد للصراع، يتحدثون عن الفارق بين احترافية الجانب الإسرائيلي وعشوائية الجانب العربي والفلسطيني، وعن الفارق بين منظومة حديثة في الحكم والإدارة وأخرى يكسوها الترهل وسوء الأداء، وإذا قلت لهم إنّ مشاكل السلطة الأساسية ترجع لحصار الاحتلال وللجرائم التي ارتكبها بحق الشعب الفلسطيني، فتجدهم يتفقون معك جزئيًا ويقولون نعم هناك مسؤولية للاحتلال ثم بعدها يعددون أمثلة لوقائع سوء إدارة وفساد لم يكن الاحتلال طرفًا فيها ويختتمون ذلك بالإشارة للانقسام الفلسطيني الذي عددوا في حوارات عديدة أمثلة لحجم الاحتقان والتحريض المتبادل بين السلطة و"حماس" على مدار سنوات طويلة، وكيف فشلت كل جهود الوساطة المصرية الجزائرية السعودية في حلّه على مدار 27 عامًا.
يجب الوعي عربيًا وفلسطينيًا أنّ هناك جانبًا يخصّنا ويتعلق بالواجب المطلوب القيام به تحت أي ظرف
خلاصة الاقتراب من هذا "المدخل التقني" للتعامل مع ملف إدارة الدولة أو السلطة الفلسطينية بُعدان: أولهما استعلائي غربي يعيد نظرية أجداده المستشرقين ولو بشكل أخف بأننا شعوب لا تصلح معها الديمقراطية والحكم الرشيد، صحيح أنّ هؤلاء لا يقولون ذلك علنًا ولكنك تشعر بذلك حين يعلنون بشكل واضح تبنيهم الكامل للرواية الإسرائيلية، أما البُعد الثاني فهو عملي وليس له علاقة بالإرث الاستشراقي ولا متعاطف مع اليمين الغربي المتطرّف بل وفي كثير من الأحيان يتعاطف مع الحقوق الفلسطينية ولكنه يجد ثغرات وسلبيات حقيقية وكبيرة يُعدّدها في أداء النظم العربية والسلطة الفلسطينية ويقول كيف سيبنون الدولة الفلسطينية وبمن سيديرونها ويحكمونها، وهل ستكون نسخة من نُظُم عربية تعاني معظمها من أزمات كبيرة؟ وهل ستستطيع هذه الدولة أن تبني ديمقراطية حقيقية ودولة قانون ونظام حكم رشيد أم ستعيد إنتاج أزمات جيرانها العرب نفسها؟.
يقينًا كل ذلك لا يُبرّر استمرار الاحتلال ولا يعفيه من جانب رئيسي من مسؤولية التدهور الذي أصاب مؤسسات السلطة وعمق الانقسام الفلسطيني، ولكن يجب الوعي عربيًا وفلسطينيًا أنّ هناك جانبًا يخصّنا ويتعلق بالواجب المطلوب القيام به تحت أي ظرف حتى لو كان هذا الظرف احتلالًا استيطانيًا عنصريًا.
(خاص "عروبة 22")