وجهات نظر

"ثورة يناير".. عندما دفع الشعب ثمن وأد البدائل!

في مثل هذه الأيام من شهر يناير/كانون الثاني عام 2011، كان نظام الرئيس المصري الراحل حسني مبارك يقف على حافة الهاوية، فعلى وقع هتاف ملايين المصريين في الميادين والشوارع "الشعب يريد سقوط النظام"، بدا أنّ شمس تلك الحقبة آخذة في الغروب، لتضع نهاية لـ3 عقود من الفساد والفشل والاستبداد.

عقب أدائه اليمين الدستورية وتسلّمه رسميًا مقاليد السلطة في أعقاب اغتيال سلفه أنور السادات، تعهّد مبارك بمكافحة الفساد والتصدي للفوضى وإهدار القانون: "لن أتهاون مع فساد أيًا كان فاعله، ولو كان أقرب الناس إليّ".

الرئيس الجديد قال في الخطاب الذي ألقاه أمام نواب البرلمان إنه "لن يحكم مصر مدى الحياة وسيكتفي بالتجديد لمدة رئاسية واحدة"، وشدد على أنّ الديمقراطية هي القاعدة التي سيحتكم إليها في بناء نظامه، ووعد بـ"احترام إرادة الشعب".

رغم تلك التعهدات والوعود، إلا أنّ الرجل أحكم قبضته على السلطة لنحو 30 عامًا، تجاهل خلالها كل الدعوات المطالِبة ببناء مؤسسات الدولة وفق القواعد الدستورية والديمقراطية المستقرة، لم يكتفِ بذلك بل قمع وحاصر كل محاولة لتأسيس أي بديل مدني يصلح لملء أي فراغ يطرأ على هيكل السلطة.

وبدعوى مكافحة الإرهاب ومواجهة الجماعات الأصولية التي اغتالت سلفه واستمر نشاطها حتى بداية الألفية الجديدة، وضع مبارك الشعب المصري كلّه بين مطرقة الأمن الذي يتدخل في شؤون كل المؤسسات المدنية، وسندان القوانين الاستثنائية التي شرعنت القمع والملاحقة والاعتقال.

خطّطت دوائر سلطة مبارك ونجله لهامش من الحريات بحذر حتى لا تكون هناك مساحة تسمح بنضج أي مشروع سياسي بديل

مارست أجهزته وحزبه الوطني الحاكم، كل موبقات السياسة بدءًا من هندسة وتزوير كل الاستفتاءات والانتخابات، مرورًا بتقييد الصحافة والإعلام وحصار الأحزاب وتجميد منظمات المجتمع المدني، وصولًا إلى اعتقال المعارضين والنشطاء وإحالتهم إلى محاكم غير مختصة.

في نهايات عهده، ومع التمهيد لمشروع نقل السلطة إلى ابنه الأصغر جمال، سمح مبارك ونظامه بهامش من الحريات الإعلامية، كما غض الطرف عن وصول عدد من المعارضين المنتمين لجماعة الإخوان أو المستقلين إلى البرلمان، للإيحاء أنّ ثمة تغييرًا سيحدث لو تسلّم "الوريث" السلطة من والده.

خطّطت دوائر سلطة مبارك ونجله لهذا الهامش بحذر، حتى لا تكون هناك مساحة تسمح بنضج أي مشروع سياسي بديل، إذ كانت مهمة أجهزة الأمن الأساسية العمل على وأد أي محاولة جادة لتنظيم الصفوف بغرض منافسة السلطة التي "شاخت في مقاعدها"، بحسب وصف الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل.

في الانتخابات النيابية التي جرت في نهاية عام 2010، نظّمت أحزاب المعارضة نفسها وخاضت المعركة على معظم مقاعد البرلمان، ما دعا دوائر "الوريث" إلى التعامل الخشن لإنجاح مرشحي الحزب الوطني الذي حصد 423 مقعدًا من مقاعد مجلس الشعب البالغ عددها 508 وحصل المستقلون الموالون للسلطة على 69 مقعدًا، فيما لم يحصل مرشحو المعارضة سوى على 15 مقعدًا.

أسّس المعارضون بعد تلك الانتخابات التي وُصفت بـ"المهزلة" ما أطلقوا عليه "البرلمان الموازي"، الذي سخر منه مبارك وقال موجّهًا كلامه لمعاونيه الذين حدثوه عن تحرك المعارضة "خليهم يتسلوا". وما هي إلا أيام قليلة حتى وقف الرجل وهو مكفهر الوجه ليخاطب شعبه الذي نزل إلى الشوراع بالملايين ليطالب برحيله، مؤكدًا أنه "لم يكن ينوي" ترشيح نفسه لولاية جديدة أو ترشيح نجله.

مبارك شدد في ذلك الخطاب على أنه "حريص على أن يختتم عمله في خدمة الوطن بما يضمن تسليم أمانته ومصر عزيزة مستقرة، وبما يحفظ الشرعية ويحترم الدستور"، وهو ما لم تقبله الجماهير المحتشدة، واعتبرت طلب الرئيس بالبقاء حتى يُنظّم عملية تسليم السلطة محاولة للالتفاف على مطالبهم، فظلوا في الشوراع حتى أُعلن عن تنحيه في 11 فبراير/شباط 2011.

أسوأ جريمة ترتكبها الأنظمة الاستبدادية هي تأميم المجال العام بما لا يسمح بصناعة بدائل مؤهلة لتسلّم الحكم بشكل سلس، وهو الجُرم الذي اقترفه نظام مبارك مع سبق الإصرار والترصّد، ودفع ثمنه الشعب المصري كله، إذ لم يكن هناك تنظيم سياسي قادر على جذب الناس إلى التصويت له في صناديق الاقتراع بعد سقوط مبارك وحزبه سوى جماعة الإخوان التي سقطت بعد عام واحد من وصولها للحكم لدخولها في معارك وصدامات مع الجميع ومحاولاتها تفصيل الدولة على مقاس تنظيمها. لتعود البلاد بعد ذلك العام إلى حقبة جديدة من الانفراد بالسلطة وإخراج الشعب من المعادلة بدعوى أنه غير مؤهل للاختيار بحسب رؤية دوائر الحكم الجديدة.

تحميل ثورة يناير مسؤولية الأزمات التي تسبّبت فيها خيارات وسياسات النظام الحالي لن يُجنّب مصر مخاطر المجهول

أهدر مبارك عشرات الفرص لتصحيح المسار، تخيّل أنه سيظل قابضًا على السلطة "ما دام في الصدر قلب ينبض ونفس يتردد"، تلاعب بمواد الدستور وجمّد السياسة وتلاعب بالقوانين وأحاط نفسه بالفاسدين، وهمّش الشعب وأضعف الأحزاب السياسية المدنية فتحوّلت مصر إلى نظام الحزب الواحد والرجل الواحد والصوت الواحد، حتى وقعت الواقعة وأصبح لا بديل أمام الناس سوى ميادين الثورة.

نسيان ما جرى لمبارك وتجاهل أسباب ثورة يناير بل وتحميلها مسؤولية الأزمات التي تسبّبت فيها خيارات وسياسات النظام الحالي طوال العقد الأخير، لن يُجنّب مصر مخاطر المجهول.

الفرصة لا تزال قائمة لإعادة النظر في كل الممارسات التي مهّدت الطريق إلى ثورة 25 يناير، فلا حل للأزمة الاقتصادية ولا درء للمخاطر التي تحيط بنا في الإقليم دون إرساء قواعد الديمقراطية والحكم الرشيد.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن