صحافة

غزّة.. نقطة انعطاف النظام الدولي

محمد رؤوف حامد

المشاركة
غزّة.. نقطة انعطاف النظام الدولي

صدقت إشارة «غوتيريش» سكرتير عام الأمم المتحدة لضرورة فهم حركية المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023 كرد فعل لتراكمات الممارسات الإسرائيلية الإرهابية، الخارجة على القانون الدولي، طوال عقود سابقة.

أما عن تواصل فعل المقاومة الفلسطينية بعد 7 أكتوبر، دون تمكن الجيش الإسرائيلي منها، برغم الدعم اللانهائي الذي يلقاه من حلفائه، فقد صار دالة على قدر ارتقاءات المقاومة، والتي تخطت الجودة المعرفية والتخطيطية إلى جودة الإنسانيات، طبقا لشهادة الأسرى الإسرائيليين المحررين.

وفي مقابل نجاحات المقاومة المشروعة (باعتبارها مقاومة للاحتلال) تتواصل العنصرية الإسرائيلية الممنهجة (والمسلحة) لإبادة السكان، ولتدمير الوجودية الفلسطينية لغزة، كدالة عظمى فاضحة لبربرية إسرائيل وحلفائها، ولاستهانتهم بالقانون الدولي.

في هذا السياق، أدى مسار «7 أكتوبر» إلى شق مجرى دولي من الفهم، والاعتراض، والتصدي، ليس فقط بخصوص إدانة إسرائيل وحلفائها، وإنما أيضا بشأن عورات النظام الدولي.

وهكذا، من منصة «7 أكتوبر» بزغ التساؤل بشأن مصير النظام الدولي، بعدما أدت أحداث غزة إلى تعميق حس وإدراكات جماهير المواطن العادي، في عموم الكرة الأرضية، بما يشوب هذا النظام من حيودات وانحرافات [المقاومة الفلسطينية والنظام الدولي.. أيهما قدر الآخر؟ ــ الشروق ــ 15 ديسمبر 2023].

لذا، بشأن النظام الدولي، يجتهد الطرح الحالي في النظر إلى التوجهات (والتحولات) الناجمة (أو التي يمكن أن تنجم) نتيجة لأحداث غزة، وفي التناول للكيفية التي يمكن بها ترجمة الرأي العام العالمي إلى دور عملي بشأن حماية القانون الدولي وتحجيم الخروج عليه من إسرائيل وأعوانها.

أولا: «غزة» المقاومة كمنصة لمجابهة عورات النظام الدولي

لقد صار «7 أكتوبر» بمثابة علامة (أو نقطة) دالة على بدء دخول المجتمع الدولي إلى تغير نوعي رئيسي، تغير بحجم «الانقلاب»، بمعنى الانعطاف في المسار.

عمليا، جاءت نقطة الانعطاف مجسدة لثلاثة أمور إستراتيجية. يتمثل الأمر الأول في خواء المسارات الدولية والإقليمية من أية إيجابيات بشأن الحق الفلسطيني. أما عن الأمر الثاني فيتمثل فيما جد من تمكن ذاتي للمقاومة الفلسطينية من مجابهة الجيش الإسرائيلي (المدعم بقوى عظمى). من الأمرين معا يأتي ولوج البيئة الدولية إلى الأمر الثالث، والخاص بتحضير الشارع السياسي العالمي لمسار مجابهة عوار النظام الدولي.

ثانيا: متجهات إلى رأي عام عالمي جديد

وهكذا، في ظل «غزة 7 أكتوبر» كنقطة انعطاف، بزغت متجهات يمكن أن تقود إلى رأي عام عالمي جديد. من أبرز الملامح في هذا الاتجاه يمكن الإشارة إلى ما يلي:

1ــ العرفان المستحق لشابين بشأن مجابهة الفساد الدولي:

الآن، يمكن التأكيد بأن «عورة» حماية إسرائيل من أحكام القانون الدولي ليست مقطوعة الصلة بحيودات كبرى مهيمنة على العالم، من أبرزها ــ كمثال ــ عمليات تجريم الأسترالي «جوليان أسانج»، والأمريكي «إدوارد سنودن»، بسبب كشفهما، منفردين، لناموس ممارسات انحرافية كبرى في النظام العالمي السائد.

في نظر النظام الدولي القائم، وبالذات من منظور الولايات المتحدة، جرى اعتبار الشابين مجرمين كبيرين، مطلوب إخضاعهما للمحاكمة بتهم تصل عقوبتها إلى السجن مدى الحياة.

تمثلت جريمة أسانج في تأسيسه لمنظمة تتيح لعموم الناس الوثائق التي تحرص الحكومات على سريتها، والتي تحمل شبهة فساد.

وأما عن جريمة سنودن فتتمثل في اكتشافه (وفضحه) لبرنامج أمريكي للتجسس على جميع الآخرين في العالم.

من خلال قضيتهما (أسانج وسنودن) تظهر المفارقة الشارحة لوضعية النظام الدولي. تتجسد هذه المفارقة في معاملتهما كمجرمين كبار في حق أمريكا (و/أو في حق النظام الدولي). ذلك بينما كل منهما، قد منح (برغم تجريمهما بواسطة الإدارة الأمريكية) الجائزة السنوية لمنظمة «سام آدمز» الأمريكية، والتي تضم عاملين سابقين من المخابرات الأمريكية، ممن يقدسون «الالتزام بالنزاهة والأخلاق فيما يتعلق بمهام وأعمال الاستخبار».

هذه المفارقة تنطق بما يعاني منه العالم، من انحراف Skewness في اتجاه الفساد والتآمر والإرهاب، وهو نفس ما يقاسي منه الفلسطينيون منذ عقود.

وهكذا، من المتوقع لرنين أحداث غزة أن يؤدي بالمجتمع الدولي إلى إعادة التقييم لأوضاعهما (أسانج وسنودن)، ليس كمجرمين وإنما كمقاومين للفساد العالمي، مما يعنى إمكانية فتح مسار التنقيب بشأن ممارسات الحكومات في التآمر ودعم االفساد.

2ــ القفز من مجرد فهم الصهيونية إلى منصات أخرى أوسع:

من الوارد لما يجري من تصاعدات في إدراكات الرأي العام العالمي بشأن الصهيونية وبربرية إسرائيل (وحلفائها) أن تؤدي إلى تحولات جديدة على غرار ما يلي:

أ) زيادة اهتمام الإنسان العادي بالتواصل والتفاعل بخصوص القضايا المجتمعية والدولية.

ب) إعادة تقييم جماهير الناخبين، خاصة في البلدان الغربية، لقيادات حكوماتهم بعد إدراك أدوارهم في دعم إبادة سكان غزة، فضلا عن اتباعيتهم للإدارة الأمريكية.

ج) مواجهات مدنية دولية أكثر جدة من أجل حقوق الإنسان عموما، وليس فقط حقوق الفلسطينيين، خاصة بعد تكرار (وحدة) افتضاح ازدواجية معايير النظام الدولي.

ثالثا: من «غزة» إلى المعرفة الإنسانية التغييرية الجديدة

أحداث غزة تمثل كشف وتعرية لما يتسيد في العالم من «تمادي للفعل المتطرف». هذا التمادي كان قد جرى رصده في دراسة «مستقبل جديد للثورات: ثورة المفكرين» (الحوار المتمدن ــ 2 فبراير 2013)، والتي ضمنت لاحقا (بنفس العنوان) في إصدار أكثر استفاضة (المكتبة الأكاديمية ــ 2019). في إطار هذه الدراسة جرت الإشارة إلى ثلاث قوى (أو متجهات) رئيسية تتضافر مع بعضها من أجل ممارسة واستدامة «التمادي في الفعل المتطرف»، تماما كما يحدث في غزة الآن.

تتمثل هذه القوى (أو المتجهات) في كل من النيوليبرالية (أو الرأسمالية الشرسة)، وسلوكيات التطرف، والنزعات الصهيونية. وباعتبار أن هذه القوى (أو المتجهات) عالمية (و/أو عولمية) الطابع، فإن التصدي لها لا بد وأن يكون عالميا.

من هذا الاعتبار، تتأسس «الأهمية التاريخية» لتحولات الرأي العام العالمي إلى دعم الحق الفلسطيني.

ذلك بمعنى أن شعوب العالم تحتاج إلى تضافرية القوى والحركيات، في اتجاه إنجاز المصالح الإنسانية الأساسية.

في هذا الخصوص تنشأ حاجة عالمية إلى «معرفة إنسانية تغييرية» جديدة. الهدف الأم لهذه المعرفة يكمن في التوصل إلى منهجية يكون من شأنها محاصرة قوى الأنانية والتطرف، الأمر الذي يحتاج إلى «نحت» نوعية جديدة من العلاقات بين جماهير المواطن العادي وأدوات الإدارة والحكم.

من أبرز أساسيات هذه المعرفة أن تكون عبر تخصصية، وأن تتشكل من خلال تواصلات بين المعارف (والتحديات) المحلية والعالمية، وكذلك تواصلات بين المعارف الفكرية والأكاديمية من جانب، والمعارف المهنية والسياسية، من جانب آخر. من هنا، يمكن القول، في الحيز الحالي، أن التوصل إلى هذه المعرفة التغييرية لا يكون ممكنا بغير «جماعية» في التحضير.

رابعا: دور المحاكمات الشعبية في حماية الشأن العام الدولي الراهن

ربما تتمثل العورة الأكثر شراسة في النظام الدولي القائم في ممارسة القطب الأوحد (وحوارييه) عمليات التعويق لمسارات تطبيق القانون (كما يحدث بشأن أوضاع غزة). وإذا كانت بعض الدول، مثل جنوب أفريقيا، قد تجرأت في التصدي لهكذا عورة، من خلال محكمة العدل الدولية (وغيرها)، فإن النجاح في إنجاز أحكام عادلة لا يعني، في ظل الملابسات الراهنة للنظام الدولي، إمكانية التنفيذ السلس لهذه الأحكام.

هذا الاعتبار يدفع إلى الحاجة لتحويل «طاقة» الرأي العام العالمي إلى آلية ضاغطة من أجل تطبيق أحكام القانون الدولي.

في هذا الإطار نجذب الانتباه إلى ما يلي:

1ــ أن استمرارية الرأي العام العالمي في التعبير التقليدي (بالتظاهرات وغيره) بغير تحقيق مخرجات عملية إيجابية قد يؤدي بكافة الأطراف إلى ممارسات مرضية Pathological، مما يزيد من الشواش العالمي، والذي من الطبيعي أن يكون في صالح قوى «التمادي فى الفعل المتطرف».

2ــ أن الارتقاء المتدرج لمسار الرأي العام العالمي (مثلا: من التظاهرات إلى المحاكم الشعبية) يكون بمثابة آلية للحفاظ عليه، وتطويره.

3ــ أن من شأن مسار المحاكم الشعبية الضغط لحماية وإنفاذ القرارات التي يمكن أن تصدر دوليا ضد المصالح الإسرائيلية.

4ــ في هكذا إطار نكرر هنا الإشارة إلى أهمية تحول الرأي العام العالمي إلى منصة لنشأة المحاكم الشعبية بهدف المحاسبة السياسية لكافة المسئولين عن دعم، وتنفيذ، أعمال الإبادة لغزة ولسكانها، من جميع كيانات العالم.

5ــ وبالإضافة إلى دور المحاكم الشعبية في تحجيم قيادات وكيانات الإرهاب، فمن شأنها أن تكون بيئة داعمة لمحكمة العدل الدولية (ولباقي مسارات الأمم المتحدة فيما يتعلق بأحداث غزة وبالقضية الفلسطينية).

6ــ حتى تكون المحاكم الشعبية ناجزة فإنها تحتاج أن تبنى ــ جماعيًا ــ من كيانات مدنية (قانونية وإعلامية وفكرية..إلخ) ، وليس من أفراد.

وبعد،.. يبدو أن القضية الفلسطينية هي بالفعل المنصة العالمية الأنسب لتصحيح عوار النظام الدولي.

("الشروق") المصرية

يتم التصفح الآن