الحالم قد يكون صاحب فكرة فقط فيظل يدعو إليها، ويظل يخدمها بما يُبقيها حيّة، ويظل يخلص لها، ويظل يتخيّلها أمام عينيه وكأنها واقع، ولأنه ولأنها كذلك، فإنها تبقى حبيسة النظرية التي تعيش في انتظار مَنْ يؤمن بها ممن يملك الحُلم والقرار على السواء. ولكن الحالم صاحب القرار هو الذي يستكمل الطريق، فلا يقف حاجز ولا حاجب بين حُلمه وبين أن يبني الحُلم عالمه المستقر الذي يحمله إلينا.
فإذا أردنا مثالًا نقيس عليه فسوف نتوقف أمام دينج هيسياو بنج في الصين، وسوف نرى في سيرته أنه لما جاء إلى بلاد التنين كان يملك لها حُلمًا، فلم يمنعه التقدّم في السن من أن ينقل حُلمه لها من عقله إلى أرضها، ولا من أن يأخذها معه لتتطلع إلى ما حولها من أمم، فلا يأتي عليها العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، إلا وهي تملك الاقتصاد الثاني في العالم بعد اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية.. ومن قبل كانت الصين كمًا على الخريطة لا كيفًا، وكانت مساحة عريضة لا تستوقف أحدًا، وكانت تتمدد في موقعها بلا مضمون.
كان الرجل في الرابعة والسبعين عندما تولى الحكم، ولكن الحُلم الذي كان يملكه لبلاده كان أقوى من أي سن متقدمة، فعاش الصينيون يذكرونه إلى اليوم، تمامًا كما تذكر كل أمّة رجلًا امتلك لها حُلمًا فأخذها به إلى حيث يجب أن تؤخذ الأمم الناهضة.
خمسينات القرن العشرين كانت حاضنة مناسبة للحلم العربي لكن الأجواء كانت عاطفية ثورية أكثر منها أرضية عملية
والرجل الذي أسّس لحقوق السود في الولايات المتحدة الأمريكية كان اسمه مارتن لوثر كينغ، ولم يكن يملك في دنياه إلا شعارًا من كلمتين، والكلمتان هما: لديّ حُلم.
ولولاهما ما كانت السيدة روزا باكس قد جاءت من بعده لتجلس في مقعد مخصّص للبيض في الباص فلا تبرحه، وقد كانت، وهي تفعل ذلك بإصرار، مدفوعة بقوة حُلم مارتن لوثر كينج، وعندما دخل باراك أوباما البيت الأبيض في ٢٠٠٨ باعتباره أول رئيس من الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية، كان مفعول حُلم مارتن لا يزال يعمل.
وقد عاشت العروبة حُلمًا في خيالنا نحن العرب طويلًا، ولكنها ترسّخت في الخيال أكثر عندما أطلّ علينا النصف الثاني من القرن العشرين، الذي شهد حركة استقلالية واسعة في أرض العرب، وكان مسرحًا جرت عليه حركات الإستقلال وثوراته كما يجري الماء في عرض النهر.
وكانت أرض الاستقلال هي التربة الجاهزة لاستقبال فكرة العروبة، وقد جرى زرعها بالفعل في أكثر من تربة بين عواصم العرب، وما لبثت حتى نبتت وظهرت في مناطق متفرقة، ومع ظهورها كانت الأحلام تكبر وتكبر وتملأ فضاء الكون، ولكنها سرعان ما انتكست، وبدا من بعدها وكأنّ علينا أن نعود إلى المربّع الأول، الذي بدأنا منه السير إلى هدف لا بديل عن أن يظل ماثلًا أمامنا.
لقد عشنا سنين نفتش عن سبب الانتكاسة، وكان علينا أن نفهم أنّ الحُلم وحده لا يكفي، وأنه يمكن أن يتوفر ثم لا تتوافر معه الإمكانيات، وأنه يمكن أن يحضر ومعه إمكاناته، ثم لا يكون له نصيب من التحقق، وأنه يمكن أن يقوم أمامنا مع إمكاناته التي تخلقه خلقًا، ثم لا يكتب الله له أن يدوم، لا لشيء، إلا لأنه كالنبتة يبقى في حاجة إلى أجواء تحتضنه وتتعهده وتحميه.
لقد نبت الحُلم العربي في أكثر من عاصمة عربية، وكانت خمسينات القرن العشرين بالنسبة له حاضنة مناسبة، ولكن الأجواء كانت عاطفية ثورية، أكثر منها أرضية عملية قوية يستطيع الحُلم أن يشب فوقها فلا يقع، فكانت الحصيلة أنه انقلب من حُلم يقظة واعية، إلى واحد من أحلام المنام التي لا تكاد تراها حتى تتبخّر فلا يعود لها وجود.
لا يكفي أن يكون الوعي على مستوى القيادة ولكنه لا بد أن يتوازى مع وعي آخر على مستوى الشعب
يستطيع كل عربي أن يحصي أحلامًا من هذه النوعية بلا عدد، ويستطيع كل واحد منا أن يحصرها فيكاد الحصر يضيق عنها، ولكنها جميعًا تبدو لنا الآن من مكاننا في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وكأنها ظاهرة فلكية لمعت في وقتها، ثم راحت تتبدد لمعتها قليلًا قليلًا فلم يعد لها أثر في مقدورنا أن نلمسه.
ولم تكن تلك الظاهرة الفلكية التي مرّت بنا في حاجة إلى شيء، إلا إلى أن تكون ظاهرة سياسية لا فلكية، ولكن ذلك كان في حاجة إلى الوعي الكافي بها وبشروطها، ولا يكفي أن يكون الوعي بها على مستوى القيادة، ولكنه لا بد أن يتوازى مع وعي آخر على مستوى الشعب، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتعليم الذي هو مبتدأ تجسيد مثل هذه الظاهرة ومنتهاها.
(خاص "عروبة 22")