يغرق بعض اللاجئين من الفئة المذكورة بالديون، وتأخّر السداد لتصبح أكبر الهموم التي تلاحقهم في حياتهم، وليجدوا أنفسهم ضمن خانة الغارقين في الديون والذين باتوا يُطلقون على أنفسهم لقب "المتعسّرين".
"سليم"، لاجئ منذ ست سنوات، بات اليوم غير قادر على تأمين مستلزمات حياته اليومية بسبب غرقه بالديون التي نتجت عن كثرة الأقساط المتوجبة عليه، سواءٌ لفرش منزله بأثاث جديد، أو أقساط الهواتف النقالة الحديثة، ووسائل الرفاهية الأخرى، ولا يتبقى من مرتّبه إلا القليل بعد تسديد ما عليه من أقساط وفوائد.
يوضح "سليم" أنّ مشكلته مع الديون بدأت عندما قرّر تجديد أثاث منزله، بأثاث من شركات شهيرة، تبيع بالأقساط، ومن ثم شراء جهازَي هاتف نقال له ولزوجته بالطريقة نفسها، فبدأت الأقساط تتزايد إلى أن وجد نفسه في نهاية المطاف عاجزًا عن تسديدها. ويقول: "لم أكن أشعر بنفسي وأنا أشتري كل تلك الأشياء، كنت أنظر فقط إلى سعر القسط المطلوب، وهذا ما جعلني أقع في الكسر، لدرجة أنني لم أعد قادرًا على شراء علبة سجائر، وبدأت بالاستدانة لتأمين كلفة المعيشة اليومية، خاصة وأنني رب أسرة مكوّنة من طفلين وأنا وزوجتي.. ومنتصف العام الماضي بدأتُ بالعمل الإضافي في توزيع البيتزا في العطلات، في محاولة لتحسين وضعي، أقلّه للعودة إلى نقطة الصفر".
و"ابراهيم" – لاجئ في ألمانيا – غارق كذلك في الديون وإن اختلفت الأسباب، حيث ترتبط حالته بما يُسمى "بطاقات جولدن"، وهي بطاقات ائتمان يتم الحصول عليها من البنك وفيها مبلغ مالي معيّن يُعتبر بمثابة قرض مصرفي، وفي حال تأخّر السداد، فإنّ المبلغ الذي حصل عليه اللاجئ، يضاف إليه فوائد تأخير.
يقول ابراهيم: "كنت قد سمعتُ عن "بطاقة الجولدن" في بداية وصولي إلى ألمانيا، ورأيتُ أن الكثير من السوريين مقبلين عليها بشكل كبير، فقررتُ أن أحصل على واحدة، وفق مبدأ الحرص على أن يكون لديّ مبلغ مالي احتياطي للضرورة القصوى، نجح الأمر في المرة الأولى، وأعدت المبلغ في الموعد المحدد، ولكن في المرة الثانية بدأت أنفق منه لقضاء إجازات، أو لشراء عبر الإنترنت، وهنا المشكلة، إذ تراكم عليّ مبلغ البطاقة الأساسي مع مبالغ الأقساط للأشياء التي اشتريتُها، فأصبحتُ فجأة غير قادر على السداد، وبدأت أتخبط، سواءً بالاقتراض من الناس لتسديد المبالغ، أو العمل "بالأسود"، لأوفر المزيد من المال"، فكانت النتيجة أنه أصبح حاليًا عاجزًا عن تسديد الأموال التي كان يقترضها من الناس لتسديد ديون البطاقة وفوائدها، وبات مدينًا بما يتجاوز 15 ألف يورو.
لعنة الرفاهية وغياب الوعي
لم تكن الحالات المذكورة ضحية للقروض، بل كانوا ضحية سوء الإدارة، وانعدام الوعي والرغبة في الحصول على مظاهر الرفاهية، خاصة مع توفر مصادر الحصول على الأموال.
فمثلًا، كانت "براء" قد لجأت إلى فرنسا، واستطاعت بفترة قياسية أن تتقن اللغة، وتجد "عقد عمل" دائم لتحصل على الجنسية الفرنسية منذ ثلاث سنوات، وهنا أصبحت زيارة سوريا مُلحّة بالنسبة لها، ولكنها تريد ان تزور بلادها "مرفوعة الرأس" كما تقول، وتغيظ "الشامتين" من أقاربها الذين يقولون بأنّ اللاجئين يعيشون أوضاعًا مزرية، فاشتركت بجمعية مع مجموعة من النساء بـ300 يورو شهريًا وما أن قبضت مبلغ الجمعية كاملًا، حتى أخذت قرضًا من البنك بضمان راتبها قيمته 10000 يورو ليحسم ما يقارب 30٪ من مرتبها كل شهر، في سبيل أن تقضي شهرًا في سوريا محمّلة بالهدايا، وملابس فاخرة، وسهرات وعزومات على حسابها، بصورة جعلت كل أقاربها يظنون بأنها تعيش حياةً فارهة أقرب إلى الغنى، وهذا ما أسعدها خلال زيارة بلادها قبل أن تعود إلى فرنسا وتجد نفسها في ضائقة مالية خانقة، وأضحت راهنًا تكابد حالة من الفقر بسبب ضغوطات الجمعيات والقروض المتراكمة عليها.
لعب تباهي بعض اللاجئين بصور عطلاتهم، وسياراتهم الباهظة الثمن وبيوتهم الأنيقة - بالرغم من حداثة عهدهم في هذه البلاد - على وسائل التواصل الاجتماعي، دورًا بخلق حالة من التنافس الضمني في التباهي والمظاهر الخادعة.
ومن مظاهر استعراض الرفاهية، يؤكد "إميل" أنه أنفق 2000 يورو خلال عطلة قام بها لمدة ثماني أيام، مضيفًا: "اليوم أسأل نفسي أين كان عقلي عندما كنت أنفق بهذا الشكل، وألوم زوجتي التي وقعت هي الأخرى في شرك المقارنات، والرغبة في العيش مثل معارفها على "السوشال ميديا"، بشراء الملابس والاكسسوارات الغالية، وقضاء الإجازات، دون أن تنتبه إلى أننا نسير نحو الهاوية، وهذا ما يشعل الخلافات بيننا الآن حول المسؤول عما وصلنا إليه من فقر حال".
حلم "المليون يورو"
وتبدأ أزمة "رامي" المالية وغرقه بالمديونية مع أحلام اليقظة التي عاشها، فقد قرّر التوجّه إلى "العمل الحر" من خلال الحصول على قرض من مكتب العمل، بالإضافة إلى استدانة بعض المال للبدء بمشروع لا يملك فيه أي خبرة على حد تعبيره، سوى بعض الأقاويل التي كان يسمعها بأنّ هذا العمل سيجعله "مليونيرًا" في أشهر قليلة، وبدأ فعلًا مندفعًا بحلم الثروة ويقول: "على الرغم من أنّ المشروع لم يكن يسير بالشكل المطلوب، إلا أنني توسعت به، وفتحت فرعًا جديدًا في مدينة أخرى، على أمل تحسين الدخل الشهري، لكن بعد عام ونصف العام من العمل بدأ المشروع بالتدهور، وبدأت أعجز عن سداد الأقساط الشهرية للقرض، خاصة وأنني كنتُ قد اشتريت سيارة جديدة بالأقساط، لأجد نفسي وسط كابوس الإفلاس الذي بدأ بحلم المليون يورو".
وبالتعليق على المسؤولية القانونية التي تقع على هذه الحالات يقول المحامي باسم سالم لمنصة "عروبة 22"، وهو مستشار قانوني بقضايا اللجوء والهجرة في فرنسا: "القوانين ذاتها تنطبق على اللاجئ والفرنسي والمقيم، تبدأ الإجراءات بكشف على ملفه البنكي وكيفية حصوله على القرض للتأكد من أنّ ذلك لم يكن نتيجة خطأ من الموظف، ومن ثم تتم محاولة الوصول إلى تسوية ودية بين البنك والمُقترض، وعندما يتضح للبنك أن المُقترض لا أملاك لديه، يُنقل ملفه إلى القسم القانوي وتتشكّل لجنة قانونية من البنك والبلدية للتأكد من أرصدته إن وُجدت، وتحديد مسؤولية البنك في منحه القرض، والاتفاق معه على كيفية التسديد".
أما في حال لم يتم التوصل إلى أي اتفاق في المرحلتين السابقتين "فتصل القضية إلى مرحلة التطبيق وهنا يتم التوجه إلى القضاء، وفي حال ثبت أن البنك أخطأ بإعطائه القرض دون أن يستوفي الشروط اللازمة عندها لا تقع على المقترض المتعثّر أي مسؤولية ومن الممكن أن يعفيه القاضي من كامل المبلغ المترتب عليه، بينما إذا اتضح أنه خدع البنك بأوراق مزوّرة مثل عقد العمل أو المبلغ الذي يتقاضاه، هنا تقع عليه التبعات القانونية كاملةً من الحجز على مفروشاته مثلًا، واسترجاع السيارة للشركة التي ابتاعها منها، وأجهزة الهواتف النقالة والأدوات الكهربائية.. إلخ، ومن ثم يتم اقتطاع مبلغ شهري من المساعدات لا تتعدى خمسين يورو شهريًا إن كان يعيش على المساعدات فقط، ومبالغ أكبر من ذلك بكثير من مرتّبه إن كان يعمل، علمًا أنّ لديهم كامل الحق باقتطاع المبلغ الشهري الذي يرونه مناسبًا بالنسبة لمرتّبه من أي جهة أو مؤسسة أو شركة يعمل لديها".
ومن الإجراءات أيضًا، كما يوضح المحامي سالم أنه "يُمنع عليه فتح حساب جاري في كل البنوك الفرنسية، على أن يُترك له حساب واحد عادي في أحد البنوك التابعة للدولة من أجل أن يحوّل مرتّبه عليه وتُقتطع منه فواتيره".
(خاص "عروبة 22")