وسط مشهد الخراب العربي الذي لا تتبيّن له نهاية، أو بداية طريق ممكن نحو التغيير إلى الأفضل، فإنّ المتوقع ذهاب إلى الأسوأ، وهذا على الأقل ما تحمله المؤشرات المعروفة في سوريا، التي كانت قبل عقد ونصف العقد تبدو عصية على الدمار الذي وصلنا إليه رغم الدكتاتورية والاستبداد، لكننا صرنا إلى الأبشع منه، وما زال الحبل على الجرار نحو الأسوأ.
ولا شك أنّ الواقع العربي وتردياته الحالية والمحتملة، تدفع إلى السؤال عما ينبغي عمله للخروج من دائرة الخراب، وليس وقفه. فالخراب لا يقف، فإما أن نكون فيه ونراكمه أو نغادره، والمطلوب في الواقع العربي أن نغادره، وأن نأخذ طريقًا إلى مستقبل آخر، يليق بنا بشرًا دون تلك الصفات الفاضلة حول الأجداد والإرث الثقافي والحضاري والتاريخ وغيرها، مما يلحقه بعضنا بنا للإيحاء بحقنا في مستقبل أفضل.
إحلال السلام يتطلب خطة إنقاذ وطني على رأس اهتماماتها تجويد التعليم وإصلاح القانون واستقلال القضاء وتوفير الحريات
طريق العرب إلى مستقبل أفضل، يبدأ من تآلف نخبة عاقلة ورشيدة، تمتد في ميادين الحياة العربية كلها، وفي الأساسي منها على الأقل، ترى الواقع وتفهمه، وتعمل على تغييره، وهذا فيه خير لها ولأكثرية العرب، وفي التاريخ بما فيه الحديث والمعاصر، أمثلة كثيرة، تؤكد أنّ الإصلاح والتغيير يحتاج نخبة، تأخذ على عاتقها مهمة التفكير والتدبير للخروج من ترديات وخرابات مفصلية، كما حدث في تحوّلات أوروبا نحو عصر النهضة، وفي ثورات العالم الحديث من فرنسا وبعدها وصولًا للصعود في سلّم التقدّم المعاصر في بعض دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
غير أنّ وجود النخبة العاقلة الرشيدة، مرتبط بما ستفعل، والخطوة الأولى في هذا المسار، أن تأخذ العرب في وجودهم العام وفي تكويناتهم الكيانية وفق الدول القائمة نحو السلام بإشاعة ضرورته، أولًا في علاقاتنا الداخلية، وفي مستوى العلاقات البينية العربية، وفي علاقاتنا مع بقية العالم دون أن يكون لدينا أي مخاوف من مسار السلام الذي يوفر فرصًا حقيقة للرقي والتقدم والقوة، ولعل مثال ألمانيا المقارن ما بين قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، مثال يصح الاقتداء به، وثمة أمثلة أخرى.
ولا شك أنّ إحلال السلام، يتطلب معه خطة إنقاذ وطني متعددة الأبعاد، تبدأ من السياسة والاقتصاد، الى الثقافة والفنون، تؤكد التوجه نحو دولة لكل مواطنيها، وتخلق في حركتها خريطة تلبي الاحتياجات الاساسية للمواطنين، يكون على رأس اهتماماتها تجويد التعليم وإصلاح القانون، وإشاعة الأمن واستقلال القضاء، وتوفير الحريات، وتأكيد المواطنة أساسًا للعدالة والمساواة، وسوف يتطلب وضع الخطط وتنفيذها مشاركة التخصصات المختلفة في النخبة الوطنية، وسيكون ذلك مثالًا على مقاربة المصالح المشتركة، ووضع برامج استجابة تطبيقية، تنطلق من الحاجة والإمكانية والطموحات.
إنّ تألف النخبة العاقلة والرشيدة، والذهاب في مسارات السلام، وفي خطة الإنقاذ الوطني وتطبيقاتها، أمور هامة في أخذ البلدان والشعوب إلى مستقبل أفضل بعد كل معاناتها، لكن تحقيق ذلك بصورة جدية غير ممكن دون تصفية مظالم المرحلة الماضية وفيها رد المظالم والتعويض على الانتهاكات والأضرار، ومحاسبة المجرمين على جرائمهم وارتكاباتهم، ولا شك أنّ تحسّن ظروف الحياة وتجويدها، سوف يجعل الضحايا أقرب للذهاب إلى تسامح وعفو، يعزّزان الطريق إلى حياة أفضل.
بقيت ضرورة الإشارة إلى نقطة أخيرة، لا بد من القيام بها، وربما هي الأهم في كل ما سبق، وتتعلق بالموقف الشعبي وبأكثريته على الأقل، وضرورة أن يتجاوب بصورة إيجابية مع محتويات الخطوات المطلوبة، ليس لأنها، وفي محتواها الأساسي، ترسم مخرجًا من الواقع الراهن فقط، بل لأنها تجعل الشعب أو أكثريته في موقع القادر على صنع مستقبله وحمايته من احتمالات كارثية، يمكن أن تحل به.
عالم اليوم كوارثه قد تكون مختبئة خلف الباب مما يجعل مراجعة التجارب والظروف حولنا واجبًا
غير أنّ توفير التفاف شعبي أو تجاوب إيجابي حول ما ينبغي القيام به، ليس أمرًا سهلًا على شعب منهك فقير ومحطّم مكلوم ومشرّد فيه مئات آلاف السجناء والمغيّبين وملايين اللاجئين، وهذا يتطلب جهدًا عاليًا ومشتركًا من فعاليات النخبة في مجالاتها المختلفة، وأن يتشاركوا في محاكاة الناس وإنهاضهم، ودفعهم نحو تأييد ما ينبغي القيام به والمشاركة النشطة فيه، بل إنّ عليهم استنهاض دور الفعاليات المدنية والأهلية ودفعها للمشاركة في العملية.
بقي قول في الخاتمة لا بد منه، وهو إذا كانت متطلّبات الخلاص والسير نحو مستقبل أفضل، تخص بلدان الخراب العربي والقريبة منها، التي عانت وتعاني مما صارت وشعوبها إليه في واقعها، فإنّ ذلك ليس بعيدًا عن حاجة البلدان العربية الأخرى، التي هي أفضل نسبيًا في حالها واحتمالات مستقبلها، لأنّ واقع عالم اليوم حسّاس في احتمالاته، وسريع في تطوراته، بل أنّ كوارثه قد تكون مختبئة خلف الباب، مما يجعل الحذر واليقظة ضرورة، ومراجعة التجارب والظروف حولنا واجبًا، والتفاعل مع ما نحتاجه أمرًا لا بد منه.
(خاص "عروبة 22")