بينما تزيل منطقة التجارة العربية الحرة التي دخلت حيّز النفاذ فى 1998 التعريفات الجمركية بين الدول العربية بنسبة تخفيض 10 %سنويًا (وصلت لنهايتها لدى أغلب الدول المصدّقة على الاتفاقية)، فإنّ الاتحاد الجمركي يفترض أن تطبّق عبره الدول العربية تعريفة جمركية واحدة على السلع المستوردة، بما يسمح بتداولها دون حواجز مع توزيع إيرادات الجمارك بطريقة متفق عليها، بالنظر إلى أنه يمكن أن يتم استيراد سلعة عبر ميناء عربي لصالح دول عربية أخرى.
غير أنّ ما يعرقل الاتحاد الجمركي العربي ليس فقط غياب الإرادة السياسية، وتشظي النظام الجماعي العربي، والكوارث التي حلّت بدول عربية كبيرة أو مهمة اقتصاديًا مثل العراق وسوريا والسودان وليبيا، ولكن حتى لو لم تكن هذه العوامل المعرقلة موجودة، فإنّ التفاوتات الهيكلية في الاقتصادات العربية الرئيسية في الواقع تمنع خروج الاتحاد الجمركي العربي للنور.
فالاقتصادات العربية يمكن تقسيمها إلى أربعة أنواع، وهذه الأنواع يصعب الجمع بينها في اتحاد جمركي واحد في ظل وضعها الحالي.
النوع الأول هو الاقتصادات الخليجية، وهي اقتصادات ثرية ومنفتحة ونُظُمها البيروقراطية متطورة نسبيًا، ولكن لا تعتمد على إنتاج محلي غزير تريد حمايته، بل عوائد مرتفعة للنفط، يقابلها تجارة خارجية قد تكون الأكثر انفتاحًا في العالم، وتعريفة جمركية منخفضة محابية للواردات ومعادية للإنتاج المحلي، ووفّر هذا النمط سلعًا مستوردة رخيصة للمستهلك الخليجي، وخلقت واحدة من أكثر أسواق الاستيراد في العالم ديناميكيةً ورخصًا، والقيود فيها مرتبطة بالأساس بالمواصفات، وليس التعريفة الجمركية.
ولكن هذا النموذج لا يمكن تطبيقه على الدول العربية الأخرى لا سيما دول النمط الثاني، وهي الدول العربية الفقيرة ولكن ذات الاقتصادات المتقدمة نسبيًا (بالمعايير العربية)، والتي لديها صناعة محلية متوسطة الكفاءة تحتاج لتعريفة جمركية متوسطة إلى مرتفعة لحمايتها، ومن بين دول هذا النمط مصر والمغرب وإلى حد ما الأردن، وتونس، ولبنان قبل أزمته المالية.
مصالح المجموعتين تختلف بشكل كبير وقد اصطدم خبراء المجموعتين خلال مفاوضات منطقة التجارة العربية حول شهادات المنشأ للسلع، كما لاحظ كاتب السطور ذلك بنفسه، لأنّ دول المجموعة الأولى (الخليجية) تريد قيودًا أقل على المكون الأجنبي للسلع المحلية، بينما دول المجموعة الثانية، وتحديدًا المغرب، تريد حماية إنتاجها المحلي من المنتجات ذات المكوّن الأجنبي المرتفع.
التطوّر في التكامل الاقتصادي متعلق بالتفاوض بين دول المجموعة الخليجية ودول المجموعة الفقيرة المتطورة نسبيًا
أما المجموعة الثالثة، فهي تضم الدول النفطية ذات الجذور الاشتراكية وهي العراق وليبيا والجزائر، حيث تعاني بعضها مشكلات في أسواقها والإجراءات التنظيمية التي ما زالت تحتاج لتطوير سواء فيما يتعلق بنُظُم الاستيراد والتصدير، والتحويلات المالية، ولكن مثلها مثل المجموعة الأولى (الخليجية) ليس لديها قطاع إنتاجي محلي كبير تبغي حمايته.
بينما دول المجموعة الرابعة وهي الدول الأفقر، مثل اليمن والسودان وموريتانيا والصومال، وهذه الدول حتى قبل إندلاع الحروب الأهلية في أغلبها، لديها مشكلات تنظيمية وفي الوقت ذاته لديها قطاع إنتاجي ضعيف ولكن مهم للاقتصاد المحلي يحتاج أحيانًا للحماية من منافسة الواردات عبر تعريفات جمركية مؤثّرة، وتتمتع هذه الدول حاليًا بمعاملة تفضيلية في اتفاقية منطقة التجارة العربية الحرة.
وفي ظل الأزمات السياسية والحروب الأهلية التي تحيق بكثير من الدول العربية، إضافة للمشكلات التنظيمية والاقتصادية، يمكن القول إنّ أيّ تطوّر في التكامل الاقتصادي العربي هو أمر متعلق بالتفاوض بالأساس بين دول المجموعة الأولى الخليجية ودول المجموعة الثانية الفقيرة ولكن المتطورة نسبيًا.
وكما ذُكر آنفًا، تتنافر مصالح المجموعتين فيما يتعلق تحديدًا بالتعريفة الجمركية أكثر من أي مجال اقتصادي آخر.
في عام 2009 أعلن وزير التجارة المصري الأسبق رشيد محمد رشيد أنّ القاهرة طلبت الإنضمام للاتحاد الجمركي الخليجي، الذي حدّد تعريفة جمركية موحدة بواقع 5% على جميع السلع الأجنبية المستوردة، ما عدا التبغ 100%.
كانت فكرة رشيد مفادها إمكانية بدء إطلاق الاتحاد الجمركي العربي، بتوسّع الاتحاد الجمركي الخليجي القائم عبر إنضمام مصر له تليها الدول العربية القادرة على ذلك، وهي فكرة منطقية بالنظر للتطور الكبير للاتحاد الجمركي الخليجي. ونبع اقتراح رشيد الجريء من موقف ليبرالي راديكالي يقوم على أنّ تحرير قيود التجارة وخلق منافسة مع المنتج المستورد من شأنه تقوية المنتج المحلي.
ولكن تبدو هذه الفكرة رغم وجاهتها النظرية بعيدة عن الواقع، فأغلب التجارب الاقتصادية الصاعدة مثل الدول الآسيوية فرضت قيودًا جمركية ولو لفترة لحماية صناعاتها المحلية، كما أنّ الولايات المتحدة رائدة الحرية الاقتصادية باتت تفرض قيودًا جمركية متعددة، وها هي تمنح إعفاءات ضريبية وجمركية لتشجيع انتقال صناعة الإلكترونيات والصناعات الصديقة للبيئة مثل السيارات الكهربائية من آسيا للأراضي الأمريكية.
هناك حاجة لمراجعة قواعد الاتحاد الخليجي ليس فقط للتقدم نحو الاتحاد الجمركي العربي ولكن أيضًا لتعزيز المصالح الخليجية
ومع أنّ كثيرًا من دول المجموعة العربية الثانية مثل مصر والمغرب والأردن وتونس لديها اتفاقات تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي وتركيا (والولايات المتحدة في حالتي المغرب والأردن) جعلت سلع هذه الكتل تدخل هذه البلدان بدون جمارك، ولكن تطبيق قواعد الاتحاد الجمركي الخليجي على هذه الفئة من الدول العربية أمر يحمل في طياته خطر منافسة السلع الآسيوية الرخيصة لمنتجاتها، وهي سلع تنافسيّتها أعلى بكثير من المنتجات الأوروبية والتركية. كما أنّ هذا التدفق المحتمل للسلع الآسيوية لن يقابله تدفق عربي للسلع لهذه البلدان؛ لأنّ أيًا من الدول العربية بما فيها دول الخليج لم تصل لاتفاقات تجارة عربية حرة مع الدول الآسيوية الرئيسية بما فيها الهند والصين، إضافة للحاجة لتفاوض جماعي عربي مع الكتل الكبرى التي ترتبط باتفاقات منفصلة مع الدول العربية.
الاتحاد الجمركي الخليجي نواة للعربي ولكن مع تعديلات ضرورية
وهنا بيت القصيد، فإذا كان الاتحاد الجمركي الخليجي القائم بالفعل والناجح هو النواة المفترضة للاتحاد الجمركي العربي المنتوى، فإنّ هناك حاجة لمراجعة قواعد الاتحاد الخليجي ليس فقط للتقدم نحو الاتحاد الجمركي العربي مع حماية مصالح الدول العربية غير الخليجية، ولكن أيضًا لتعزيز المصالح الخليجية ذاتها.
فلقد قامت المقاربة الاقتصادية الخليجية لعقود على واحدة من أكثر أنظمة التجارة الخارجية انفتاحًا، فوفّرت عائدات النفط الضخمة فوائض مالية، سمحت لها بفتح أسواقها للسلع الأجنبية بتعريفات جمركية محدودة، وشكّل ذلك واحدًا من أعمدة معادلة الرخاء الخليجي الحالية، وهي رواتب عالية مع سلع مستوردة رخيصة (أحيانًا أرخص من بلد المنشأ).
ولكن اليوم مع رغبة دول الخليج المعلنة في تنويع اقتصاداتها وتقليل الاعتماد على النفط، فإنّ هناك حاجة لمراجعة هذا النمط الاقتصادي الذي يؤدي مع ارتفاع أجور العمالة بدول الخليج وضعف القطاع الزراعي إلى إضعاف تنافسية الصناعات المحلية باستثناء تلك المستندة لاستهلاك كثيف للطاقة.
ولقد ظهرت هذه الإشكالية واضحة أمام جهود المملكة العربية السعودية لإنشاء صناعة سيارات محلية، إذ أعرضت "تويوتا" التي تُمثّل الرياض أكبر سوق لها بالشرق الأوسط، عن التجاوب مع عرض المملكة لإقامة مصنع لها هناك، حسب تقرير لوكالة "رويترز"، ليس فقط بسبب ارتفاع تكلفة العمالة ومشكلات تدريبها وصغر السوق، ولكن أيضًا، لأنّ "تويوتا" لم تجد الحافز لإقامة مثل هذا المصنع بينما يمكن أن تجلب للسعودية سياراتها المصنّعة بالدول الأسيوية بتكلفة أقل وبتعريفة جمركية محدودة.
فبصرف النظر عن شعارات الليبراليين الراديكاليين، لا يُمكن بناء صناعة محلية بدون فرض قدر متوسط من الحواجز الجمركية ريثما يشتد عود هذه الصناعة.
كما أنّ التعريفة الجمركية الخليجية المنخفضة حاليًا، لا توفر حافزًا للكتل الكبرى للتفاوض مع الكتلة الخليجية لإقامة مناطق للتجارة الحرة، لأنّ سلع هذه الكتلة تتدفق بتعريفات جمركية منخفضة للخليج دون تدفق خليجي مقابل.
المشكلة أنّ زيادة الجمارك في دول الخليج معناها إطلاق ضغوط تضخمية مقابل منافع ليست كبيرة من إقامة بعض الصناعات التي لن تكون واسعة النطاق بحكم قلة موارد دول الخليج من المواد الخام والعمالة ومحدودية سلاسل التوريد المحلية، كما أنّ مثل هذه الصناعة سوف تكون بحكم التركيبة البشرية الخليجية معتمدة بشكل كبير على العمالة الأجنبية.
من هنا تأتي أهمية أن تكون التعديلات المقترحة على الاتحاد الجمركي الخليجي جزءًا من مخطط لاتحاد جمركي عربي أكبر، ففي هذه الحالة لن يشمل مفهوم المنتجات المحلية البديلة للمستورد المنتجات الخليجية فقط، بل منتجات دول عربية أخرى لها ميزات تنافسية، مثل مصر والمغرب، مما يقلّل الضغوط التضخمية الناجمة عن رفع التعريفات الجمركية.
كما يمكن للاتحاد الجمركي الخليجي أن يرفع التعريفات الجمركية بشكل محدود وانتقائي بحيث يستهدف السلع التي يكون هناك آفاق تنافسية لإنتاجها محليًا.
بالتزامن مع ذلك، يمكن إطلاق اتحاد جمركي عربي لدول المجموعة الثانية المتطورة نسبيًا مثل المغرب ومصر والأردن وتونس وكذلك العراق والجزائر، على أن يكون الهدف الالتقاء عبر مهلة زمنية بين هذا الاتحاد وبين الاتحاد الخليجي، فيتم تخفيض تدريجي للتعريفات في الأول ورفعها في الثاني تدريجيًا ليتقابلا في نقطة وسط (لتكن 15 % مثلًا في معظم السلع).
التجارب العالمية تؤكد أنه لا مجال لتحقيق تنمية دون صناعة ولا مجال لنهضة صناعية دون سوق كبيرة وتنافسية
ولكن ذلك يجب أن يتم في إطار استراتيجية أوسع لإقامة السوق العربية المشتركة، وبناء صناعة عربية محلية ذات قدرات تنافسية، وستستفيد دول الخليج من هذه المقاربة من جانبين، الأول إقامة صناعة محلية تحقق تنوّع الاقتصاد المنشود، وتوفير فرص عمل محلية، والثاني، الاستفادة من استثمار رؤوس الأموال الخليجية بالصناعة بالدول العربية الأخرى التي سيتوفر لها بدورها ميزة السوق العربية الأوسع، المحمي بحاجز جمركي مقبول للطرفين.
مثل هذه المقاربات لا مفر منها لجميع الدول العربية، لأنّ التجارب العالمية تؤكد أنه لا مجال لتحقيق تنمية دون صناعة، ولا مجال لنهضة صناعية دون سوق كبيرة وتنافسية قادرة على التفاوض مع الكتل الكبرى وتوفّر حماية جزئية ومرحلية للمنتجات المحلية.
وتبدو السعودية عبر رؤية 2030، واقتصادها المتنوّع ورأسمالها البشري الأكبر نسبيًا، والإمارات باقتصادها الديناميكي، هما الأكثر تأهيلًا لتطبيق مثل هذه الرؤية خليجيًا، بينما قد تكون المشكلة أكبر لدى الكويت الديمقراطية الخليجية، لأنّ صعود الضغوط التضخمية جراء زيادة التعريفات الجمركية قد يثير معارضة شعبية.
إنّ قلق دول الخليج من ارتفاع الأسعار جراء زيادة جزئية للتعريفات الجمركية، مفهوم، ولكن في المقابل، فإنّ استمرار النمط الاقتصادي الخليجي الحالي سيؤدي إلى مصير أخطر، هو استمرار ضعف الإنتاج المحلي غير النفطي في وقت تبدو ساعة نهاية الوفرة النفطية تدق بقوة لا تخفى على أحد.
(خاص "عروبة 22")