هذا، فضلًا على أننا غالبًا ما نتناول النهضة كمشروع قومي كبير، تتداخل فيه منظورات النهوض الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، والتنوير العلمي والفكري والسياسي، والتحديث الصناعي والخدمي، والحداثة الأدبية والفنية، وما بعد الحداثة بشتى تداعياتها.
بصرف النظر عن مراحل التطوّر المفاهيمي للثنائيات الجدلية المشار إليها، والرؤى الكثيرة المطروحة بشأنها من قبل المفكّرين والباحثين العرب على مدى عقود عديدة، فإنه يمكن القول، إنّ مفهوم "النهضة" في أصله، انفصل في زمننا الحاضر عن ثنائياته المركّبة، وعثر أخيرًا على نقطة الفكاك الزمني، والتحرّر مما يتضمّنه من صراعات "نهضوية" متجدّدة!.. فالنهضة، عمليًا، لم تعد معنية بالفروق بين زمانين أو مرحلتين تاريخيتين، بالمعنى المذكور؛ تختلفان بصورة أو بأخرى في المستويات الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية؛ أو حصرًا، في العلم والمنهج والفكر والتفكير، أو في آلية التغيّر والتغيير في مختلف المجالات. إنها اليوم تعني تشكّلات المجتمعات الرقمية، وتكتلات القدرات والإمكانات التي تُجسّد وجودها الكوكبي هويةً وإبداعًا. وتعني أساليب الذات الفاعلة على الشبكات المعلوماتية، واكتساب قيم الحاضر المتقدّم، دون الوقوع رهينةً للتشكّل والتماهي في الآخر، صانع التقدّم الحضاري المعاصر.
المجتمعات التي تنتج البرمجيات الأصلية وتتحكّم بتكنولوجياتها هي المجتمعات التي تقبض على مقود التقدّم الكوني
لقد تغيّر المعنى الحقيقي للنهضة، تغيّرًا جذريًا في العقود الأخيرة، وأصبح ينطوي على مفاهيم ألغت العنصر الزمني الفارق بين ثنائية القضايا المطروحة... إنّ كلّ ما تتطلّبه النهضة المنشودة عربيًا، من معارف وخبرات وممارسات أصبحت على المحك الرقمي المتشابك تكنو-اجتماعيًا.. حركة تفاعلات آنية، تتجاذب وتتبادل التأثّر والتأثير مع حركة حياتنا المجتمعية الطبيعية.
العصر الرقمي الحالي، في ما بعد الحداثة المتوالدة، المتجلية في ظواهر التكنولوجيا أو بالأحرى، ما بعد التكنولوجيا، والاجتماع، والاقتصاد، والأدب، والفن... كلّ ذلك هو باختصار شديد، عبارة عن تمثّلات رقمية ألغت المسافات بين نقاط التفاعل، بشرًا وآلات. ودخلنا منذ التسعينيات الماضية ما أسميناه، من حوالى عشرين عامًا، بـ"الاجتماعية الآلية"، و"الهوية الآلية"، في حوارية "العقل الجمعي الإلكتروني"، ليس لإنساننا البشري/الآلي فحسب، بل لسائر مظاهر حياتنا المعيشة، التكنو-اجتماعية. لكي تعيش وتتواصل مع غيرك في هذا العصر، لا بد أن تترَقمَن. لا بد أن تتفاعل افتراضيًا، وأن تمتد حواسك، وتتسع باتساع شبكة الشبكات (الإنترنت)، وأن تصبح بصورة ما، ما يُشبه "بوابة" بشرية متنقلة لحركة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المهيمنة على حركة الكوكب.
حيثما أنت، في مكان ما، يمكنك أن تكون في مكان آخر، تتمثّل ذاتك وتتمظهر كما تشاء، ولكن بصورتك الجديدة المركّبة (الإنسوب)، اختصارًا لمركّب الإنسان-الحاسوب.. هذا الكائن البشري الرقمي (الإلكتروني) المتمثّل من خلال أرقامه الثنائية (آحادًا وأصفارًا).. بشتى صور التفاعل التكنولوجي الشبكي الممكنة، المكتوبة، والمسموعة، والمرئية. وتتوزّع على تقنيات إنترنت الأشياء بأنواعها... والحقيقة الجامعة بين كل هذه التمثّلات، سواء في الأفراد أو الجماعات والمنظمات، هي كونها منتجات برمجية متفاعلة. حزم من البرمجيات المنتجة آنيًا في لحظة التفاعل، أو سلفًا، كأدوات للوصل والتواصل من خلال الأنظمة التكنولوجية البشرية المتعددة.
أليست، والحالة هذه، معضلة النهضة بأكملها، يمكن أن تنحصر في إشكالية "صناعة البرمجيات"؟.
إنّ المجتمعات التي تنتج البرمجيات الأصلية، وتتحكّم في تكنولوجياتها.. تخطّط لها، وتصمّمها، وتنفذها في مشاريع ريادية، وتهيمن على مسارات منتجاتها التقنية المتنوعة، هي المجتمعات التي تقبض على مقود التقدّم الكوني.. لغتها تسود، وثقافتها تنتشر، وتتجذّر في ثقافات المجتمعات الأخرى، غير المنتجة للبرمجيات الأصلية. وليس من نافلة القول، أن نقول برمجيات "أصلية"، فهي تعني الكثير في منظورنا النهضوي هذا. إنها من ناحية، تشير إلى الاستقلالية التامة لهذه الصناعة عن الدول المتقدّمة وشركاتها المصنّعة لأدوات وموارد تكنولوجيا البرمجيات، مثل لغات البرمجة، وأنظمة نمذجة المعلومات والمعرفة. إلى جانب قدر كبير من استقلالية العتاد الحاسوبي اللازم لتطوير البرمجيات المستقلة. بالإضافة إلى ضرورة استقلالية اللغة المطلوبة المستخدمة في التطوير البرامجي، وهي لغتنا العربية لا غير.
يحيلنا هذا الطرح إلى قضية "توطين" التكنولوجيا في مجتمعاتنا العربية، وليس مجرد نقلها إليها. كما أنه يضعنا أمام بعض التساؤلات والتحديات المهمة؛ بدءًا من ماذا يعني التوطين، في خصوص هذا التوجّه؟ وهل ما يحدث في عالمنا العربي من حركة صناعة البرمجيات هو توطين لها؟ وماذا نحتاج لتوطين هذه الصناعة الأساسية لتحقيق مستهدفات النهضة العربية الحديثة، خاصة ما يتعلق بالتنمية الشاملة، التنمية المستدامة، البشرية والمكانية، والتحرّر العقلي من رواسب الماضي التي تشد إلى الوراء، وتعزيز مقوّمات الهوية والخصوصية العربية في عالم مُرَقمَن يتغيّر بشكل سريع، وفي ظلّ الثقافة الكونية والقواسم الإنسانية المشتركة، والتي هي في واقع الأمر مهيمن عليها من قبل الدول المصنّعة لتكنولوجيا العصر الرقمية؟.
نحتاج إلى إعداد الإنسان الواعي الذي يستطيع أن يوطّن التكنولوجيا المستورَدة ويضيف إليها مبتكراته
لنبدأ من مضمون التوطين الحقيقي لصناعة البرمجيات، وتكنولوجيا المعلومات، والمعرفة التقنية بصورة عامة؛ والذي هو في الواقع، عملية معقدة تتطلّب وعيًا مناسبًا، وانتقاءً خاصًا لأنشطتها المختلفة. فالتكنولوجيا في أساسها تعتمد على "معرفة كيف"، و"معرفة لماذا". وهي آلية فكر وتفكير، ومهارة إتقان وكفاءة جودة. وبذلك فهي ترتبط بالإنسان المنتِج لها، الإنسان المجتمع كذات لها ثقافة وأسلوب حياة ونمط تفكير وتقاليد وأعراف ومستوى حضاري يناسب الابتكار والإبداع والإنتاج التقني في المجتمع. إذن، لا يمكن في حقيقة الأمر نقل التكنولوجيا بمعزل عن متعلقات محيطها الاجتماعي الذي أُنتجت فيه. ومن هنا، يبرز المصطلح "توطين" بدلًا من مجرد "نقل"؛ فالتوطين من هذا المنحى يعني حيازة التكنولوجيا كعقل وممارسة، أي كعلم ومعرفة ومهارة وابتكار، بآلية وكيفية تلائم المجتمع المنقول إليه التكنولوجيا، وبالتالي نحتاج إلى إعداد الإنسان الواعي الذي يستطيع أن يوطّن التكنولوجيا المستورَدة بتكييفها حسب ظروف مجتمعه وثقافته واحتياجاته ومتطلّباته الفعلية، ويضيف إليها مبتكراته، بل ربما يبدع في مجاله، ويطوّر من ذاته ويرتقي بالمستويات التكنولوجية المستورَدة والمبتكَرة محليًا إلى درجات أرقى، حتى يستقل بالقرار التكنولوجي في مراحل التطوير والاستخدام كافة. هنا، تدخل السياسة العلمية في جوهر عملية توطين التكنولوجيا.. لأجل التوجيه والترشيد وتحديد الأولويات، ورسم الأطر وسياقات التخطيط والإنجاز، والتشجيع والدعم المعنوي والمادي.. وتوضع القوانين والتشريعات واللوائح اللازمة لحماية المبتكرات والمنجزات، ورعاية المبتكرين والمطوّرين والمستثمرين.
وهنا، أيضًا، لا شك، تبرز قضايا التعليم والتدريب، والبحث العلمي، والارتباط بمؤسسات الصناعة وخدمات المجتمع، وغير ذلك من موجبات التوطين الواعي للتكنولوجيا عمومًا، وصناعة البرمجيات على وجه الخصوص.
(خاص "عروبة 22")