والحـقُّ أنّ الـدّولـة الوطنـيّـة تُـضْمِـر داخـلـهـا هـذيـن البـعـديْـن معـًا؛ فـهي شـأنُـها شـأن سابـقـاتـها من الـدّول إنّـما تـنـهـض بالوظـائـفِ عيـنِـها التي تـنـهـض بـها تلك: مـن بسـط النّـفـوذ، وتـنـظيـم المجـتـمع، وحمـايـة أمنـه الـدّاخـليّ والخـارجـيّ، وتـوفيـر شـروط تـنـمـيـته... إلخ. ومـا البُـعْـدُ هـذا مُضْـمَـرٌ فيـها إلا لأنّـها دولـة.
لكـنّ الـدّولـة الوطنـيّـة تـختـلـف، مـن وجْـهٍ ثـان، عـن غيـرهـا مـن نمـاذج الـدّول؛ إذْ هـي تُـسْـفِـر، في تكويـنها، عـن هنـدسـةٍ سياسيّـة جـديـدة لنـظـام السّـلطـة، وعـلاقـة الـدّولـة برعـايـاها، غيـرِ مسبـوقـةٍ ولا معـروفـة قـبْـلًا، الأمـر الذي يَـنْـمَـاز بـه نـظامُـها عـن نظـام أيّ دولـةٍ آخَـر: سـابـقٍ أو مُـجَـايِـل. لِـنُـلْـقِ نظـرةً - فـي شيءٍ من الإسـراع - علـى ثـلاثٍ مـن أهـمّ سمـات نـمـوذج الـدّولـة الوطنـيّـة وأظْـهـرِهـا.
الدّولة الحديثة يُحاطُ كلُّ شيءٍ فيها بضمانات القانون الذي يحمي الحقوق ويَرْدع الانتهاكات
أوّلُ السّـمـات تلك أنّ مَـبْـنَـى نظـامِ هـذه الـدّولـة الوطنـيّـة (هـو) على القـانـون: بـما هـو المبـدأ الحاكـمُ فيها والسّـاريّـةُ أحكـامُـه على المنتـميـن إليها جمـيـعًا: أفـرادًا وجماعـاتٍ وفـئـات ومـراكـزَ سلـطـةٍ وأجـهـزةً ومـؤسّـسـات. القـانـون فيها مـقـدّسٌ أو ذو حُـرْمـةٍ بحيث لا يَـقْـبَـل الانتـهـاكَ مـن أحـدٍ أو مـن جسـمٍ سياسيّ. إنّـه السّـلطـة العليـا ولا سلـطـة تَـعْـلُـوهُ أو تـمـلك أن تسـخِّـره لـغيـر المصـلحـة العـامّـة: التي يمـثّـلُ تحـقيـقُـها وضـمانُـها وحـمايـتُـها مـبـدأَ وجـود الـدّولـة نفسـها. وإذا كـان الـقانـون، في عُـرْف نـظـريّـة السّـياسـة الحديـثـة، هـو التّـجسيـد المـاديّ لـِ الإرادة العـامّـة، كـما يقـول جـان جـاك روسـو؛ ولـمّـا كـانت الأمّـة هـي مصـدر السّـلطـة، في الـدّولـة الحديثـة، كـان لا منـاص مـن تحكيـم ما يـجسِّـد إرادتَـها (= القـانـون) في شؤونـها العـامّـة. لذلك عُـدَّت هـذه الـدّولـة الحـديـثة دولـةَ قـانـون، في تـعـريفٍ شائـعٍ لـها في الفـكـر السّـياسـيّ الحـديـث، أي دولـة يُـحـاطُ كـلُّ شيءٍ فيـها بضـمـانـات الـقانـون: الذي يحـمي الحـقـوق، ويَـرْدع الانـتـهاكـات، ويحـفـظ الاستقـرار والسّـلـم المدنيّـة.
ليس غير المؤسّسات قمينٌ بتطهير كيان الدّولة والسّلطة من الأمراض الكابحة لحُسْن أدائها
ثـانـي سمـاتـها انـبـنـاؤُهـا على مقتـضى النّـظـام المـؤسَّـسيّ وخضـوعُ عمـلِ سلْـطاتـها وأجهـزتـها للرّوح المؤسّسيّـة التي يفـرضها هـذا النّظـام. مـن النّـافـل القـول إنّ المؤسّـسات، داخل كيـان الدّولـة، هي التّجسيـد الماديّ المبـاشـر لـ العـقلانيّـة السّـياسيّـة فيها وفي عملهـا؛ فهي تعبيـرٌ عن إرادةِ تنظيـمِ عمـل الدّولـة، وإخـضاعـه لعـلاقـات المسـؤوليّـة/المحاسبـة؛ وهي تعبيـرٌ عن مَحْـوٍ سياسيٍّ ومـاديّ لظـواهـرَ مَـرضيّـة في إدارة سلـطات الدّولة من قبيـل الهـوى، والمزاجيّـة، واحتـكار القـرار...، وسوى ذلك ممّا يـدخل في تكـوين حالة الاستـبـداد في السّـلطـة؛ وليس غير المؤسّسـات قميـنٌ بتطهيـر كيان الدّولة والسّـلطـة من هذه الأمراض الكابحـة لحُسْـن أدائـها، تمامًا مثـلما هـي قـمينـةٌ بضمان استمراريّـة عمـل السّـلطـات، بسلاسـةٍ وانسـيابـيّـة، حتّى حينما يغيـب القائمـون عليها لهذا السّبب أو ذاك. هذا، أيضًا، ما يُفسّـر سبب تسمية الدّولة الوطنيّـة دولـةَ مـؤسّسـات في كثيرٍ من الأدب السّياسيّ.
المواطنون المتساوون أمام القانون يَـشُدُّهم ولاءٌ أعلى واحد للدّولة والوطن لا لعصبيّة أهليّة أو طائفة أو مذهب
أمّـا ثـالث تلك السّـمات فـقيامُ هذا النّـموذج على منظومـةٍ سياسيّـة جديدة، غيرِ مألوفة في تاريخ الدّول، هي منظومة المواطَـنـة وعلاقاتها. ليس للدّولة الوطنيّة رعيّـة يرعـاها رُعاةٌ، بـل مواطـنون هُـم مَن يديـرون شؤونـها من طريق وكـلاء/ممـثِّـلين يَـكِـلُون إليهم إدارة الشّؤون العامّة نيابـةً عنهم وباسمهـم. وهؤلاء مواطنـون لأنّهم متساوون أمام القانون، يَـشُـدُّهـم ولاءٌ أعلى واحـد للدّولة والوطـن، لا لعصبيّـةٍ أهليّـة أو طـائـفةٍ أو مـذهب، ويـتـمتّعـون - بالتّـالي - بالحقوقِ المدنيّـة والسّياسيّـة عيـنِـها لقاء ما تستـأديـه الدّولةُ منهم من واجباتٍ عليهم تجاه الدّولة والمجتمع. إنّ أَظْـهـر ما يَـسِـم هذه الدّولة الوطنيّـة هو نظـامُ المواطَـنـة هذا الذي يجعلـها، بحـقّ، دولـةً لمواطـنيـها.
(خاص "عروبة 22")