بصمات

"مالك بن نبي"...نحو تذكُّر المرحلة المنسية من مراحل الحضارة

"الحق الطّبيعي لكل إنسان لا يتحقّقُ بالعقل السّليم، وإنّما بالرّغبة و الاقتدار" (سبينوزا).. "لن نفعل أبدًا، لو نحن وازنّا بين الثّقل الهائل للأشياء وبين ضَعف الإنسان، لذلك على المرء أن يفعل وأن يفكّر بفعله" آلان.

هي مرحلة الرُّوح[1]، أو التوتُّر الدَّاخلي أو هزَّة القلب كما يصطلح عليها "مالك بن نبي"، فالرُّوح مفهومة هنا بمعناها الوظيفي في التَّاريخ والاجتماع؛ هي البَاعثُ الأوَّلُ على تحريك قِوى النَّفس، وعلى إنشاء الرَّابطة الأخلاقية، لأجل الفِعل المشترك، ونحن اليوم - برأي بن نبي- انزلقنا إلى المرحلة الثَّانية من مراحل الحضارة، أي مرحلة "الفكر أو العقل"، وانحدرنا إلى المرحلة الثَّالثة أيضًا وهي مرحلة؛ "الغريزة"، فاعتقدنا أنَّ أزمتنا أزمة فكرية أو كَلامية، بينما هي أزمة رُوحية أخلاقية، تجد أجْلىَ مظاهرها في: تَحَكُّمِ القِوى الحيوية في الذَّات من جديد، وفي عجز هذه الذَّات أيضًا عن القيام والنّهوض والفعل، وعلَّة هذا الحال: تخدُّر الوازع الرُّوحي وانتفاء الاستجابة للدَّوافع الأخلاقية.

القُوَّة الرُّوحية هي خميرة النُّهوض الحضاري.. نحو بذور ثقافة يكون فيها الأساس الأخلاقي هو روح الاجتماع الإنساني

إنّ جهود الإصلاح الرَّاهنة، التي تبصر في الأزمة مظاهرها الفكرية، تحتاج إلى إعادة فهم، فالحركة التَّاريخية لا تُبَادئ من العقل، بَلْ من الرُّوح؛ وبالرُّوح وحده يقتدر الإنسان على تجاوز الواقع نحو واقع أفضل، لأجل ذلك أسَّس "مالك بن نبي" علمًا جديدًا، سمّاه "علم تجديد الصّلة بالله"، لكن ليس على طريقة الدَّرس الكلامي الباحث عن الأدلة العقلية في حِجَاجِه عن العقائد الإيمانية، إنَّما على منهاج التَّصوّف، وليس أيضًا على طريقة مدارس الزُّهد التاَّريخية، إنما يأتي هذا العلم في سياق إحداث يقظة الرُّوح، وتجديد الوجدان، فالقُوَّة الرُّوحية هي خميرة النُّهوض الحضاري، وسِر الفعل التَّاريخي النَّوعي وأساس تنقية المحيط من الأمراض الثقافية، لإتاحة المجال نحو بذور ثقافة أخرى يكون فيها الأساس الأخلاقي هو روح الاجتماع الإنساني. ويجدر بنا صرف القول، إلى أنَّ إقرار "مالك بن نبي" السَّعي إلى المرحلة الأولى من مراحل الحضارة المنسية أي مرحلة الرُّوح، له ما يبرره في سياق أزمات الإنسان المعاصرة، بوصفها أزمة روحية أو ثقافية، تتجلّى في هذا الانفصال بين فكرة الإلزام و أسلوب الحياة، فيما بات يُعرف بـ: مجتمعات بعد الأخلاق - Poste Morale، التي من سِماتها: السَّعي نحو جودة الحياة، وتلبية المُتَع الفورية، والانكفاء على العوالم الخصوصية الذَّاتية، والاستمتاع بكل ما يحبه الجَسَد بمعزل عن أوامر الخير والشر؛ إنَّها ثقافة امتصاص المعنى من الجسد، ومن الرَّغبة ومن البواعث النَّفسانية، وليس من إلزامات الواجب أو الفضيلة أو المنفعة.

لنقل إذن، بأنَّ حاجة الوعي إلى الرُّوح هو الذي يحدث هزة القلب، وبالتَّالي فإن التَّجديد الأخلاقي هو السَّابق على التَّجديد الفكري؛ ومُستلزم هذا، أنَّ مشاريع الإصلاح التي تبتغي التَّغيير النَّوعي؛ إنمَّا يكون من القيم الأخلاقية الرُّوحية، هذه القيم هي أساس التّحرُّر وكسر عوائد الانحطاط ومألوفات التّخلُّف؛ فالانطلاق من أخلاق القلب مثل: القوة الرُّوحية والفعل  والصَّبر والتَّواضع والإخلاص للمعاني الإيمانية وإعْمار الذَّات بها، ستكون أمتن وأصلب، بخاصة في هذا المعيش السَّائد، أي معيش تغلّب الطّاقة الحيوية والدّوافع النَّفسانية على الإنسان، وهي دوافع تَكْبِتُ الرُّوح وتمنعها من أن تتنفّس أو أن تنطلق، لا بدَّ إذن، من إعادة قلب العلاقة بين اللَّاشعور الذي اختزله "فرويد" في الطَّاقة الجنسية وبين القيم الرُّوحية، بحيث تصبح القيم الروحية هي اللَّاشعور الثَّاوي في الذَّات، ومن يمنع انطلاقها، إنّما هي الدَّوافع الحيوية أو رغبات الدَّرجة الأولى، وبالتَّالي، فإنّ الفعل التّربوي، هو الفعل القَمِينُ بتحرير اللَّاشعور الرُّوحي من قبضة رغبات الدَّرجة الأولى؛ والحقيق باللِّباس الرُّوحي الذي به يتحرَّر الإنسان، ويَشْرَعُ في بناء شبكة العلاقات الاجتماعية باعتبارها أساس الفعل الحضاري ونقطة انطلاقه.

لا بد من توسيع الوعي كي يشمل الجوانب الرّوحية والأخلاقية والتّربوية

هكذا، إذن تُعد مرحلة الرُّوح، هي المرحلة الأولى ضمن مراحل الحضارة، ولأجل تذكُّر هذا البُعد المنسي، يجب - حسب مالك بن نبي - أن نُطَوِّرَ علمًا هو علم: تجديد الصّلة بالله، الذي موضوعه القيم الرُّوحية من جهة تسجيل حضورها في القلب وفي التَّاريخ، إنّها المِرقاةُ من الانحصار في رغبات الدّرجة الأولى إلى رغبات الدَّرجة الثانية، فتصبح الذّات التي تشرّبت المعاني الروحية والإيمانية؛ تجد حياتها في الإثبات وفي الواجب وفي المبادرة والمبادأة، وليست تلك الذات التي تفكر وتتضخَّم لديها ملكة التفكير حتى تحجب أقدس ما في الإنسان. فالهوية الإنسانية في روحها إنّما هي الهوية القيمية والأخلاقية، وأيّة حركة في الإصلاح لا تبوّئ هذه الصِّفة مكانها الرّفيع وشأنها الجليل، ستقع في التَّجزيء للفعل الحضاري ولتَغييب الوصف التَّكاملي في الوعي، ولعلّ ما يؤكد هذه الحقيقة، أنّ ثمة جهودًا إصلاحية ابتدأت بمعالجة أزمة العقل[2]، وفهمت الأزمة أنها فكرية منهجية، تتطلَّب تجديد المناهج الفكرية ومضامين وأساليب التّعليم، لكن هذه الجهود نفسها، عادت من جديد إلى الوعي بالأزمة، بوصفها أزمة روحية تجد منبتها في ضعف الدَّافعية لدى النَّفسية العربية المسلمة، لأنَّ معرفة الحقيقة لا يستلزم العمل بها، بل لا بد من توسيع الوعي كي يشمل الجوانب الرّوحية والأخلاقية والتّربوية.

وهكذا أصبح فعل الإصلاح يشترط الوعي التّكاملي بين المعرفي والوجداني، وهذه التَّجربة تعبّر عن عمق النّظر لدى "مالك بن نبي"، وعن تَلَمُّحِه العميق، لمنهج الإصلاح وترتيب أولوياته. فكان وفيًا للنَّسق الوصفي المعرفي الذي قسَّم بموجبه الحضارة إلى مراحل ثلاث: الروح والعقل والغريزة، فهذا ترتيب منطقي وترتيب تاريخي، وليس مجرّد توصيف لملكات إنسانية أو صيرورة حضارية.



[1] لا يقصد مالك بن نبي بالروح هنا، الكينونة الشّفافة التي تسكن الجسد، وإنما يتلمّس معناها من جهة  أدوارها البنائية والتَّغييرية للإنسان.

[2] أنظر، بلعقروز عبد الرزاق، أدبيات عبد الحميد أبو سليمان : قراءة تحليلية معرفية، مجلة إسلامية المعرفة، مجلد،29، عدد،106، 2023.

 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن