مراجعات

الاستراتيجيا الصينية تجاه الدول العربية: الأهداف والمآلات "الحزام والطريق" بين الطموحات والتعقيدات

باختتام الدورة العاشرة لمؤتمر رجال الأعمال العرب والصينيين الذي عقد في الرياض يومي 11 و 12 حزيران (يونيو) 2023، وما نتج عنه من اتفاقات وصفقات تجاوزت قيمتها 10 مليارات دولار، ومن قبله القمة العربية – الصينيّة التي استضافتها الرياض أيضًا نهاية العام 2022، تمكّنت المملكة العربية السعودية، مجددًا، من تعزيز العلاقات مع التنين الآسيوي الذي بات حاضرًا بقوة في المشهد العربي، السياسي والاقتصادي.

الاستراتيجيا الصينية تجاه الدول العربية: الأهداف والمآلات

كان العام 2022، شهد سلسلة زيارات ديبلوماسية لكل من وزراء خارجية السعودية والكويت وعُمان والبحرين، والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، إلى جانب وزيري خارجية تركيا وإيران، إلى الصين، لإجراء محادثات حول تعزيز التعاون التجاري والأمني.

تهدف كثافة هذه الزيارات إلى دفع بكين نحو مشاركة أعمق في الشرق الأوسط، حيث تعتبر منطقة الخليج بالنسبة إليها، أساسية لإمدادها بالطاقة وبصورة متزايدة لتأثيرها الجيوــ سياسي. كيف لا، وتُعدّ الصين اليوم من الدول الكبرى، وهي، فوق ذلك، تنافس الولايات المتحدة الأميركية على المرتبة الأولى عالميًا في بعض المؤشرات الاقتصادية، على الرغم من أن الناتج المحلي الإجمالي الأميركي ما زال يحتل المرتبة الأولى عالميًا، فهو كان في 2016، حوالى 18,62 تريليون دولار، في مقابل 11,19 تريليون دولار للصين. لكن هذه الأخيرة تتفوق عليها في معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي، حيث بلغ في 2016، على الرغم من تراجعه عن الأعوام السابقة 6,68 في المئة، مقارنة بنمو قُدِّر بـ1,48 في المئة للولايات المتحدة.

 هذا في العموم، أما عن علاقة الصين بالعالم العربي، وهي موضوع كتاب "الاستراتيجية الصينية تجاه الدول العربية"[1]، فتنظر بكين إلى هذه العلاقة – التاريخية القديمة تجاريًا، والمتنوعة في مجالاتها حديثًا – على أنها استراتيجية؛ فالتنوّع المذكور يشمل الاقتصاد والسياسة والثقافة، والجوانب الاجتماعية أيضًا، ويظهر ذلك جليًا في التصريحات الرسمية والاتفاقات، وكذلك في الوثائق، كوثيقة "سياسة الصين تجاه الدول العربية" الصادرة في عام 2016، والمشروعات التي أطلقتها الصين في القرن الحادي والعشرين، كمشروع " الحزام والطريق" الذي أُعلن عنه في 2013، والمنظمات المشتركة التي أنشأتها كـ"منتدى التعاون الصيني – العربي" في عام 2004.

الكتاب في أصله أطروحة دكتوراه في الدراسات الإستراتيجية، تهدف إلى تحليل الرؤى الإستراتيجية للصين تجاه الدول العربية، أما الباحث، أنس النصّار، فيعمل باحثًا ومديرًا للتطوير والعلاقات الحكومية في المنظمة الكندية الدولية لحقوق الإنسان، وهو سبق أن عمل باحثًا في مركز الدراسات والبحوث بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية.


الإشكالية والتساؤلات والفَرَضيات

عاشت الصين عقودًا من العزلة عن العالم، وها هي تتّبع سياسة الانفتاح في علاقاتها الدولية. وكان السبب الرئيس لذلك التغير تطور اقتصادها، ولا سيما الصناعة منه، وحاجتها الماسة إلى الطاقة، خصوصًا النفط والغاز الطبيعي، إلى جانب ضرورة توفير أسواق لتصريف منتوجاتها. لذلك ازداد في القرن الجاري اهتمامها بالمنطقة العربية باعتبارها منطقة جيوستراتيجية غنية بالموارد الطبيعية، ناهيك عن أسواقها. لكن هذين المجالين وما ينبثق منهما من أهداف استراتيجية ليسا وحيدين؛ إذ أوردت الصين في كثير من وثائقها الرسمية مجالات متنوعة للعلاقة الاستراتيجية مع الدول العربية، كالتنمية المشتركة والتعاون الثقافي، وشرعت في عقد شراكات استراتيجية من خلال منظمات أنشأتها، كمنتدى التعاون الصيني – العربي في عام 2004، ومشروعات طرحتها، كمشروع الحزام والطريق –  الذي يرمي إلى توسيع مجالات علاقة الصين بدول المنطقة.

سعى الباحث في كتابه إلى الوصول لعدد من الأهداف، مثل: (1) استقراء تحولات رؤية الصين لعلاقتها مع الدول الأخرى، ربطًا بتغيرات النظام السياسي والقدرات والمكانة، (2) تحليل أهداف الصين الاستراتيجية استنادًا إلى قضاياها الجوهرية ومجالاتها، والتعرف إلى أدوات تحقيق تلك الأهداف، (3) استشفاف رؤية الصين تجاه الدول العربية ودراسة تطورها، (4) تحليل مجالات الاستراتيجية الصينية تجاه الدول العربية، وأبرز أهداف هذه الاستراتيجية، (5) الكشف عن أبرز الأدوات التي تعتمدها الصين لتحقيق أهدافها، (6) التوصل إلى مآلات الاستراتيجية الصينية تجاه الدول العربية، بناءً على أهدافها وأدوات تحقيقها.

تكمن أهمية الكتاب – الأطروحة تأسيسًا على أنّ الصين تُعَدُّ اليوم القوة الثانية عالميًا، من الناحية الاقتصادية على وجه الخصوص، ويُتوقَّع أن تتبوأ المرتبة الأولى خلال العقود المقبلة. وعلى هذا الصعيد، التقى اهتمام الصين بالدول العربية وحاجتها، لما فيها من ثروات وأسواق لتصريف المنتوجات، مع رغبة تلك الدول بالاستفادة الصينية في التنمية ومشروعاتها المطروحة.

إن تعامل الدول العربية مع الاستراتيجية الصينية، سيكون، إن هو استند إلى دراسات علمية، أكثر جدوى في تحقيق المصالح العربية. وقد خلص الباحث إلى إيضاح المصالح الصينية وأهداف هذه الاستراتيجية، علّها تكون مرجعًا لصنّاع القرار في الدول العربية، خصوصًا مع تقدّم الدور الصيني وتوقّع تراجع الدور الأميركي في المنطقة. ومع حاجة الصين إلى الطاقة والأسواق الخارجية، سيكون وضوح أهدافها الاستراتيجية وسيناريواتها المستقبلية معينًا لصنّاع القرار على اتخاذ الإجراءات اللازمة تجاه تلك العلاقات، واعتماد التخطيط المستقبلي للاستفادة من إيجابيات المشروعات المقترحة في النمو والتنمية، وتطوير المكانة السياسة للدول العربية.


اشتمل الكتاب – الأطروحة على دراسة ميدانية اشتملت على ثلاثة محاور، بغية الإجابة عن تساؤلات محدّدة من قبل خبراء من الطرفين:

المحور الأول: أهداف الصين الاستراتيجية تجاه الدول العربية: في المجال السياسي، الاقتصادي، الثقافي، الاجتماعي، والأمني/ العسكري.

المحور الثاني: أدوات تحقيق أهداف الصين الاستراتيجية تجاه الدول العربية؛ القوة الناعمة أم إلى القوة الصلبة (العسكرية)؟

المحور الثالث: مآلات الاستراتيجية الصينية تجاه الدول العربية، المحتملة والراجحة، ومؤشراتها ومداها الزمني؛ هل هو تحقيق الأهداف الاستراتيجية وفق معادلة غير صفرية (بما ينعكس إيجابًا على الطرفين)؟ أو وفق معادلة صفرية (بما ينعكس إيجابًا على الصين وسلبًا على الدول العربية)؟ أو تعذُّر تحقيق أهداف الصين الاستراتيجية، واستمرار الوضع من دون تغيير جوهري؟


"الحزام والطريق": الجذور والمرتكزات

تعود الجذور التاريخية لهذه المبادرة إلى ما قبل أكثر من ألفي عام؛ إلى زمن "طريق الحرير" التجاري الذي كان عبارة عن شبكة طرق لتجارة الحرير بين الصين، "أسرة هان"، والهند والجزأين الجنوبي والغربي من آسيا الوسطى، وامتدت تلك الشبكة بخطوط مواصلات برّية بين الصين والمناطق القريبة من أوروبا وأفريقيا، فكانت طريقًا للتبادل الاقتصادي والثقافي عبر أوراسيا من خلال رحلات متبادلة بين الصين وأوروبا وأفريقيا. وكان الحرير أبرز مكوّنات تلك التجارة، وكان للعرب حصة من الطريق والتجارة.

كان رئيس الوزراء الصيني السابق لي بينغ أول من طرح فكرة إحياء طريق الحرير، وذلك في عام 1994. ولقيت فكرته تفاعل كثير من الدول معها، حتى تجسدت في أيلول/ سبتمبر 2013 في عرض الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة التعاون بين الصين ودول وسط آسيا على بناء "حزام اقتصادي لطريق الحرير"، وذلك في أثناء زيارته إلى كازاخستان. وبعد شهر من ذلك، طُرحت في قمة "آسيا – جنوب شرق آسيا" مبادرة "طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين"، ويُشار إلى هاتين المبادرتين بـ"الحزام والطريق" اختصارًا، وهما كناية عن مشروع يقوم على إحياء طريق الحرير القديم، وتوسيعه ووضع رؤية للتشارك في الاستراتيجيات التنموية والبنى التحتية بين الدول الواقعة على طول خطه البري والبحري، لتوثيق الروابط بين تلك الدول الآسيوية والأوروبية والأفريقية، بما يحقق المنفعة للجميع.

تتضمّن تلك المبادرة/الرؤية بناء شبكة كاملة متفرّعة من طريق الحرير الأساسي برًا، وبناء شبكة بحرية تستهدف ربط الساحل الصيني بأوروبا، مرورًا بمناطق أخرى. وهذه الشبكة تستدعي تأهيل البنية التحتية في الدول التي ستمرّ فيها، وتجهيز الطرق، وسكك الحديد، والموانئ، بل وتهيئة البيئة القانونية والتجارية والاستثمارية والمالية في تلك البلدان لتتناغم في هذا المشروع، وهو ما سمّي لبناء المشترك.

ويضم هيكل مبادرة " الحزام والطريق" ممرات تشمل:

- من الصين إلى أوروبا (بحر البلطيق) مرورًا بآسيا الوسطى وروسيا.

- من الصين إلى منطقة الخليج والبحر المتوسط، مرورًا بآسيا الوسطى وغرب آسيا.

- من الصين إلى جنوب آسيا وجنوب شرقها والمحيط الهندي.

- يتّجه طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين من الموانئ الصينية إلى المحيط الهندي والقارة الأفريقية، مرورًا ببحر الصين الجنوبي ودول جنوب شرق آسيا والمنطقة العربية، وامتدادًا إلى أوروبا عبر قناة السويس والبحر الأحمر.

كذلك، أنشأت الصين في عام 2014 مؤسستين ماليتين تتصلان بمبادرة "الحزام والطريق"، وهما البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية، وصندوق طريق الحرير.

أين موقع الدول العربية في مشروع "الحزام والطريق"؟

تنظر الصين إلى الدول العربية باعتبارها جزءًا مهمًا، بل رئيسًا، في مبادرة "الحزام والطريق"، وبالفعل فقد انخرطت سبع دول هي: السعودية والإمارات وعُمان وقطر والأردن ومصر، اضافة في السودان الذي يواصل درس الانضمام حاليًا. وجرى عقد كثير من الاتفاقات بين الصين والدول العربية، لتنفيذ مشروعات حيوية، سواء كان الاتفاق بشكل ثنائي، أو من خلال البنك الآسيوي، ومن هذه المشروعات: في عُمان (مشروع سكك الحديد، وميناء الدقم التجاري، ومشروع البنية التحتية للنطاق العريض)، وفي مصر (مشروع برنامج الطاقة الشمسية).



[1] أنس خالد النصّار، الاستراتيجية الصينية تجاه الدول العربية، ط1، بيروت /الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020، (275 صفحة).

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن