يكاد يُمثّل توظيف السياسات الخارجية في الداخل أحد الملامح الرئيسية الواضحة لنهج الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في التعاطي مع الأزمات الإقليمية المتلاحقة وتوظيفها محليًا.
فبعد استشهاده في السابق بما يجري في ليبيا والعراق وسوريا، تنقل السيسي مؤخرًا ما بين غزّة والصومال، في سرديته المفضّلة، لتحذير مواطنيه من انهيار الدولة، في استمرار لاستراتيجيته السياسية والإعلامية الثابتة، في توظيف الأزمات الإقليمية، في إطار مساعيه لتأكيد حكمه للبلاد بلا منافس.
حرب غزّة
في خطابه بمناسبة فوزه بولاية رئاسية ثالثة، اعتبر السيسي أن "اصطفاف المصريين، كان تصويتًا للعالم كله من أجل التعبير عن رفضهم لهذه الحرب غير الإنسانية، وليس لمجرد اختيار رئيسهم لفترة رئاسية"، في إشارة للحرب على غزّة، لافتًا إلى أنّ "تلك الحرب تستدعي استنفار كل الجهود للحيلولة دون استمرارها، بكل ما تمثله من تهديد للأمن القومي المصري بشكل خاص، وللقضية الفلسطينية بشكل عام".
وفقًا لوجهة نظر السيسي تلك، فإنّ العدوان الإسرائيلي على القطاع المحاذي للحدود المصرية يشكل تهديدًا للأمن القومي المصري. هذا الخلط المتعمّد ما بين الداخل والخارج، ليس جديدًا على الإطلاق، فقد لجأ السيسي في الآونة الأخيرة للاستشهاد بما يجري في غزّة، للتحذير من مآلات وسيناريوهات محتملة للوضع الداخلي في البلاد.
مؤخرًا توجّه السيسي إلى مواطنيه، الذين سجّل تقديره لهم على خلفية حجم المعاناة والضغوط الاقتصادية التي يمرّون بها، وما وصفه بصلابتهم المعنوية، باعتبارهم مسؤولين عن أمن مصر واستقرارها، "كل حاجة تهون إلا بلدكم.. إلا بلدنا، ربنا أعطانا مثال حي لناس، لا نعرف كيف نُدخل إليهم الطعام وكل حاجة تهون إلا أمن وسلامة مصر".
واستدعى السيسي الأزمة في غزّة بمناسبة حديثه في ذكرى عيد الشرطة المصرية الذي يتزامن مع ذكرى ثورة 25 يناير التي تم تجاهلها عن عمد خلال السنوات الأخيرة، وذكّر الرئيس المنتخب حديثًا باضطراب الأوضاع على حدود مصر الشرقية والغربية والجنوبية في آن واحد، وبحجم الخسائر التي نجمت عن الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس الراحل حسني مبارك. وقال السيسي في كلمته: "لا بد أن نكون كتلة واحدة، وأي تحدي ممكن يمر علينا لو كنا سويًا"، محذرًا من محاولة تأليب الرأي العام ضد الدولة، والفصل بين مواقف الشعب والحكومة كما حدث عام 2011.
واستدعت هذه التصريحات، سخرية لاذعة من فكرة دعوة المصريين لتجنب مصير قطاع غزّة، رغم اختلاف الظروف والتحديات. وعدّ بعض المراقبين أنّ السيسي -عن عمد- يستخدم سوريا والعراق كمجرد فزاعة تجاه مواطنيه بهدف التخويف فقط، بينما من وجهة نظر أخرى تختلط نظرة السيسي إلى الأمن القومي المصري بنظرته الشخصية إلى أمن واستقرار نظامه.
ويري المؤرخ المصري خالد فهمي أنّ سيناريو سوريا والعراق رغم أنه مخيف، لكنه بدأ بالفعل في مصر بيد النظام الحاكم.
تجربة الصومال
ورغم أنه أشاد بنجاح الصومال، خلال عهد رئيسها الحالي حسن شيخ محمود، في ثلاثة ملفات أبرزها مكافحة الإرهاب وشطب الديون الأجنبية ورفع الحظر المفروض على تصدير السلاح، فقد استغل السيسي مؤتمره الصحفي مع الرئيس الصومالي لمخاطبة المصريين، مذكّرًا بتاريخ الصراع المضطرب في الصومال منذ عام 1991 والعصف بمقدرات الدولة هناك، وقال: "خلوا بالكم من بلادكم.. أي تحدي يمكن مجابهبته ما دامت الدولة مستقرة وآمنة". واضطر السيسي إلى تقديم اعتذار في المؤتمر نفسه إلى ضيفه، الذي لا يتقن اللغة العربية، لضمان عدم غضبه من هذه الملاحظات.
خالد محمود، مراسل "عروبة 22"، خلال لقائه الرئيس الصومالي في القاهرة
وعقب ساعات من تحذير السيسي لإثيوبيا بـ"عدم تجريب مصر"، فيما يخصّ الصومال، والذي اعتبره مراقبون بمثابة رسالة تهديد بالحرب، أبلغني الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود حين التقيتُه خلال زيارته الأخيرة للقاهرة، بشكل واضح لا لبس فيه، أن لا نية لديه في الوقت الراهن لشن حرب على إثيوبيا، بسبب المذكرة المثيرة للجدل التي أبرمتها بشكل منفرد مع ولاية أرض الصومال الانفصالية.
مصر أولًا
وكان السيسي يؤهل مواطنيه خلال ندوة حكومية لتحمّل المزيد من المعاناة، بعدما قال: "لو كان التقدّم والتنمية ثمنه الجوع والحرمان أوعوا يا مصريين تقولوا ناكل أحسن"، دون أن ينسى ربط تقدّم البلاد بتحطيم الفجوة بين سعر الدولار في البنوك الرسمية والسوق السوداء الموازية.
وسبق للسيسي أن تساءل في ندوة للجيش المصري، "طيّب ما تسألوا اللي حصل في شمال سوريا حصل ليه؟.. مين اللي عمل كده في سوريا؟.. اللي عمل كده في سوريا أهلها، وهو المطلوب إشعال الموقف".
عبارة "كي لا نصبح مثل سوريا أو العراق"، ليست جديدة على المصريين، فقد استُخدمت خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، كما تعكس أطروحات السيسي خارجيًا رؤية واقعية برجماتية تسعى للتعامل مع الأوضاع الإقليمية من منظور مصلحي محافظ، يضع الاستقرار والتوازن وتحييد التهديدات الخارجية كقيم مركزية تفرضها الأوضاع الداخلية المعقّدة ومقتضيات إعادة بناء الدولة وتعظيم قدراتها، لكن كان لهذه للسياسة الخارجية ثمنها في غالب الأحيان بسب اعتماد السيسي مقاربة "مصر أولاً".
يتحدث خبراء اقتصاديون في المقابل، عن خضوع مصر لإرادة أجنبية في بيع أصولها الثابتة كمحاولة للخروج من الوضع الاقتصادي المأزوم، ولفتوا إلى أنّ ما ينقص مصر هو الكفاءة في الإدارة، والإيمان بفقه الأولويات.
ورغم أنّ السيسي استطاع تحقيق جزء من الأهداف على صعيد سياسته الخارجية، إلا أنّ هذه الأهداف تبقى إنجازات آنية وأحادية، دون وجود لأهداف استراتيجية.
وتوصي دراسة أكاديمية بحاجة عملية صنع السياسة الخارجية المصرية للتطوير والتفعيل، بينما ينصح البعض القاهرة بإعادة ترتيب أولويات القضايا الإقليمية والاشتباك معها على قاعدة المصالح المصرية وحماية الأمن القومي، وتوسيع دوائر الحركة لتضم دوائر غير تقليدية، للتحرّك في مسارات متوازية.
ويسجل الباحثون إدراك مصر للتغيّر في موازين القوى الإقليمية الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، ومرونتها في تقبّل تقاسم وتشارك التأثير على نحو يسمح لها بتأثير نوعي في قضايا جزئية.
لكن هذا كله لا يمنع من لفت الانتباه، إلى أنّ الحالة الاقتصادية المثيرة للمخاوف، بالإضافة إلى تأثيرات الموقف الخليجي، كلها عوامل تدفع الخارجية المصرية لبناء رؤية تقبلها القوى الدولية، وهي منهجية مصرية تكرر اللجوء إليها، وتعتمد فيها القاهرة على السياسة الخارجية كثيرًا لتعويض فقر الأداء في السياسات الاقتصادية.
لهذا كان طبيعيًا أن تمثّل هذه الضغوط الاقتصادية على الاستقرار الداخلي، وبالتالي تكبح جماح تطلّعات مصر إلى الاضطلاع بدورٍ أبرز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ورغم تحقيق بعض النجاحات الخارجية في عهد السيسي واستعادة مصر بعض من نفوذها، تستمر المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المحلية في عرقلة تطلّعات مصر وطموحها في تأدية دور أوسع إقليميًا.
ولخّصت مجلة الايكونومست البريطانية المشهد بقولها إنّ "مصر لا تستحق الإنقاذ، لكن يجب أن تحصل عليه"، واعتبرت أنه لا يمكن لمنطقة الشرق الأوسط أن تتحمّل انهيار البلد الأكثر اكتظاظا بالسكان، محذرةً من أنه إذا انهارت مصر التي تواجه أزمة مالية متصاعدة، فقد يؤدي ذلك إلى مزيد من زعزعة استقرار الشرق الأوسط بأكمله.
وعلى هذا، فإنّ تعمد السيسي، الاستشهاد بتجارب العراق وسوريا وليبيا والصومال وغزّة لإسقاطها على الواقع المصري الداخلي، لا يخلو أيضًا من توجيه رسائل مبطنة، إلى الشركاء الإقليميين والدوليين المهتمين بمنطقة الشرق الأوسط، بعدم ترك مصر تخوض وحدها أزمتها الاقتصادية.
الرسائل الموجّهة للداخل، إذن، تستهدف أيضًا الخارج، خاصة مع تزايد دور الرئيس في السياسة الخارجية بشكل واضح اعتبارًا من عام 2014، والتداخل بين الوضع الداخلي وقضايا السياسة الخارجية، بدرجة لم تعد معه الحدود الفاصلة بين الاثنين واضحة تمامًا.
وثمة ملاحظة أخيرة تتلخّص في غياب أي مستشارين معروفين يعود إليهم الرئيس المصري قبل صنع مسارات السياسة الخارجية، فالرأي العام وحتى الخبراء لا يعلمون من هُم مستشارو الرئيس في السياسة الخارجية، كما أنّ التهميش اللافت لمستشارة الرئيس للأمن القومي فائزة أبو النجا، يُعد لغزًا، حتى أنّ ظهورها النادر يُعتبر حدثًا إعلاميًا، على الرغم من أنه طبيعي بحكم ما تتولاه من منصب.
(خاص "عروبة 22")