ولكن الواقع مختلف كثيرًا، إثيوبيا ليست أمّة زنجية، بالمعنى العلمي الدقيق، بل على العكس، الشعوب المهيمنة فيها تاريخيًا شعوب تنتمي للمجموعة السامية التي تضم العرب، وهم سمر البشرة وليسوا سود البشرة، والأهم أنّ الدولة الحبشية بُنيت تاريخيًا على نظرة استعلاء إثني وديني قامت على الاستيلاء على أراضي الشعوب الأكثر سمرة مع تطوير منظومة عنصرية مركّبة يتصدّرها الأمهريون والتيغراي الساميون الأقل سمرة الذين يمثلون قمة الهرم الاجتماعي يليهم الأورومو، ثم الصوماليون والعفر والهرر، وكل هؤلاء من الشعوب السمراء المنتمية للمجموعة اللغوية والإثنية المسماة الأفروآسيوية (مجموعة واسعة تضم العرب والأمازيغ وشعوب أفريقيا السمراء)، بينما يحتل قاعدة الهرم الطبقي الشعوب الزنجية في الجنوب والغرب الإثيوبي التي يطلق عليهم لفظ شنقلا أو باريا (barya) ذي المدلول شديد العنصرية.
وارتبط بهذه العنصرية سياسات للاحتلال والاستيلاء على الأراضي نفذتها الإمبراطوريات الحبشية على مدار قرون لصالح الأجناس المسيطرة وما زالت هذه السياسات تتواصل بشكل أو بآخر.
بفضل التقاليد الحربية والإمبراطورية توسّع الأمهرة وتقدّموا جنوبًا مسيطرين على أراضي الشعوب الأخرى
فلقد نشأت الحبشة، كإمبراطورية توسّعية من الممالك الأولى التي تأسّست في أريتريا وإقليم تيغراي في شمال البلاد، ثم انتقل المركز لمناطق الأمهريين الذين طوّروا مفهوم الإمبراطورية الحبشية التي ترسّخت أيديولوجيتها الهرمية التوسعية بعد اعتناق المسيحية ثم تبني النظرية السليمانية وهي أنّ الأسرة الحاكمة التي أسّست الإمبراطورية الحبشية في القرن الثالث عشر من نسل سليمان وبلقيس ملكة سبأ، الأمر الذي أضفى مسحة من فكرة الشعب المختار على نخبة البلاد الأمهرية، (وهي أسطورة يستبعدها العلم الحديث تمامًا).
وتدريجيًا بفضل التقاليد الحربية والإمبراطورية، توسّع الأمهرة (يمثلون حاليًا نحو 26% من سكان البلاد) تحديدًا من شعب صغير إلى شعب مهيمن حيث تقدّموا جنوبًا مسيطرين على أراضي الشعوب الأخرى، وبلغ توسّع الإمبراطورية الحبشية بقيادة الأمهريين ذروته بضم مناطق الأورومو والهرر والعفار والصوماليين والشعوب الزنجية في غرب وجنوب وجنوب شرق إثيوبيا في القرن التاسع عشر، حيث كانت الدولة الأفريقية الوحيدة التي هزمت دولة أوروبية وهي إيطاليا في معركة العدوة الشهيرة.
أكبر قومية في البلاد مهمّشة
والأورومو، هم أكبر قومية في البلاد ويمثّلون نحو 35% من السكان (نحو 55% إلى 60% منهم من المسلمين والباقي مسيحيون)، جرى ضم أراضيهم، خلال القرن التاسع عشر، وتحوّلوا لشعب من الدرجة الثانية بعدما كانوا شعبًا محاربًا، وجرت محاولات لفرض الثقافة الأمهرية المركزية عليهم.
ففي عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي (1930-1974)، تم حظر لغة الأورومو في التعليم والحديث العام والإدارة. كما قامت كل من حكومتَيّ هيلا سيلاسي والديرغ (النظام الماركسي) بنقل العديد من الأمهرة إلى مناطق الأورومو جنوب إثيوبيا ليخدموا في الإدارة الحكومية والمحاكم والكنائس وفي المدارس، حيث حذفت النصوص الأورومية وتم استبدالها باللغة الأمهرية.
وما زالوا الأورومو يشكون من التهميش السياسي والاجتماعي، رغم أنهم أكبر مجموعة سكانية بالبلاد.
وهناك أيضًا، القوميات المسلمة من الصوماليين والعفار والهرر الذين كانوا جزءًا من سلطنات عريقة وتم ضم بلادهم للإمبراطورية الحبشية وتعرّضوا للقمع ومصادرة الأراضي.
وفي أعقاب حرب أوغادين خلال السبعينيات، تم استهداف الهرر والصوماليين ومسلمي الأورومو من قبل الحكومة الماركسية على وجه الخصوص.
كل الشعوب السابقة من الشعوب الأفروآسيوية السمراء، أما الطبقة الأدنى في الهرم الاجتماعي الإثيوبي تقليديًا فهم سكان المناطق الجنوبية الغربية من الزنوج النيليين، الذين عانوا من عنصرية مزدوجة من سادة البلاد الأمهريين وحتى من الأورومو، وشكّل الفارق الإثني الكبير بينهم وبين باقي سكان البلاد ذريعةً تاريخيًا لسيطرة سكان المرتفعات من الأورومو والأمهرة على أراضيهم المنخفضة الخصبة والتمييز العنصري بحقهم.
في عهد الحكم الماركسي بقيادة منغستو هيلا ميريام، توسّع الاضطهاد ليشمل التيغراي بسبب اعتزازهم بلغتهم وهويتهم.
بعد سقوط النظام الماركسي، قاد التيغراي البلاد رغم أنهم يمثلون نحو 7% من السكان، وقام رئيس الوزراء الأسبق ميليس زيناوي من جبهة تحرير شعب تيغراي، الذي تولى السلطة في عام 1991، بخلق هيكلية سياسية جديدة لإثيوبيا تُسمّى "الفيدرالية العرقية".
رغم أنّ آبي أحمد بدأ بالتعهد بتعزيز الديمقراطية لكن سرعان ما توجّه لسياسات السلطة المركزية القوية
ورغم توسّع الفيدرالية والحقوق الثقافية ظل طابع النظام مستبدًا مع سيطرة التيغراي على السلطة والمؤسسة العسكرية، إلى حين حدثت اضطرابات في إقليم أورومو أكبر أقاليم البلاد، التي أدت عام 2018، لتسليم السلطة لآبي أحمد (من أب مسلم من الأورومو وأم مسيحية من الأمهريين)، ولكنه وصل للسلطة بدعم النخبة الأمهرية التقليدية، خاصة أنّ الأمهريين كانوا ينظرون لحكم التيغراي على أنه يهدد ببلقنة إثيوبيا وتهميش سيطرتهم وإستقطاع الأراضي التي استولوا عليها.
ورغم أنّ آبي أحمد بدأ بالتعهد بتعزيز الديمقراطية، لكن سرعان ما توجّه لسياسات السلطة المركزية القوية، ودخل في خلاف مع التيغراي أدى لحرب شهدت عمليات تطهير عرقي ومذابح وعمليات اغتصاب واسعة ضدهم تمت بالتحالف مع الميليشيات الأمهرية ومع دولة أريتريا.
كما أنّ آثار عمليات الاستيطان الأمهري في مناطق البلاد، ما زالت تثير المشاكل حيث تشهد أقاليم عديدة خلافات بين السكان الأصليين والمستوطنين.
(خاص "عروبة 22")