مراجعات

"العلاقات الإنجليزية السنوسيّة".. وموقع ليبيا الجغرافي الاستراتيجي

تعيش ليبيا ومنذ أوسط عام 2011 وضعًا سياسيًا حرجًا، منفلتًا هادرًا أحيانًا، وهادئًا نسبيًا في أحيان أخرى، يُغدّيه صراعٌ بين أطراف دولية وإقليمية متعدّدة ومتباينة المصالح، وهو أمر لا يبدو غريبًا أو طارئًا، إذ كانت ليبيا ومنذ القديم "ضحية" موقعها الجغرافي الاستراتيجي، لأنّها تُمثّل حلقة الوصل بين أفريقيا وشمال أوروبا وبين الصحراء الكبرى، ومن ورائها السودان الأفريقي وأفريقيا المدارية جنوبًا، كما تُعدّ ليبيا "قوة بينية" تقع بين قوتين قطبيّتين: مصر من الشرق، والمغرب العربي من الغرب.

وازدادت أهميتها بعد التمدّد الاستعماري الغربي على أفريقيا حيث أصبحت نقطة تجاذب تقع بين حدود الاستعمار البريطاني في شمال شرق أفريقيا والفرنسي في شمالها الغربي والجنوب الشرقي وتشاد والنيجر في الجنوب والجزائر وتونس إلى الغرب.

ومن هنا تأتي أهمية كتاب الدكتور عبد المجيد الجمل "بريطانيا العظمى وبلاد المغرب: العلاقات الإنجليزية السنوسيّة (من خلال الأرشيف الإنجليزي والفرنسي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى 1949)"، الذي يتناول بالدراسة العلاقات الإنجليزية السنوسيّة أثناء الهيمنة الإمبريالية الإيطالية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى حدود 1949، وتحديدًا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي مثّلت منعرجًا هامًّا يتمثّل في تدويل القضية الليبية وصولًا إلى استقلال البلاد سنة 1951.

صدر هذا الكتاب عن دار علاء الدين للنشر، صفاقس وجامعة منوبة تونس، وجاء في نحو 189 صفحة، وتضمّن قسمين ومقدمة عامة وخاتمة عامة، واحتوى كل قسم على فصلين، بحيث يتضمن كلّ فصل ثلاثة عناصر ومقدمة وخاتمة. تضمّن العمل أيضًا أحد عشر ملحقًا وفهرسًا للأعلام وكشافًا للأماكن وقائمة للمصادر والمراجع باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية بالإضافة إلى الفهرس العام.

أبرز وحلّل بدقة أبعاد التنافس بين القوى الكبرى على ليبيا وانعكاس ذلك على الجوار

يندرج الموضوع المدروس ضمن التاريخ السياسي المقارن من خلال معالجة عدة إشكاليات وتفكيكها حول تعقيدات العلاقة الخصوصية بين الحركة السنوسية وبريطانيا العظمى، ودور الزعامات العربية التقليدية في بناء تلك العلاقة من ذلك الزعامات المصرية الإصلاحية (شيوخ الأزهر والطهطاوي ومحمد عبده والثعالبي في تونس...)، إلى جانب حدّة التنافس بين القوى الإمبريالية الثلاث للهيمنة على ليبيا، ومدى مراهنة الزعامات السنوسية دبلوماسيًا على التناقضات بين القوى الإمبريالية سواء في مواجهة فرنسا قبل 1911 أو أثناء مقاومة الاستعمار الإيطالي (1911- 1943).

جاء القسم الأول تحت عنوان "جذور العلاقات الإنجليزية الفرنسية وتطورها من أواخر القرن التاسع عشر إلى 1939"، حيث تطرّق الفصل الأول منه إلى جذور الامتيازات الإنجليزية وبوادر علاقاتها بالحركة السنوسية، وبيّن الكاتب من خلاله البوادر الأولى للامتيازات الإنجليزية ببلاد المغرب بالتركيز على طرابلس الغرب وسياقات الوفاق المبكّر بين الحركة السنوسية وبريطانيا العظمى وحدود الوفاق الإمبريالي الإنجليزي الإيطالي مع استمرار التحالف الإنجليزي السنوسي. في حين تناول الفصل الثاني تطور العلاقة الإنجليزية السنوسية بين 1914 و1918 ودور العثمانيين في دفع السنوسيّين للانضمام إلى جانبهم أثناء الحرب العالمية الأولى وإعلان الحركة السنوسية الجهاد ضد إنجلترا وفرنسا، مبرزًا أسباب تحوّل موقف السنوسية بقيادة محمد إدريس السنوسي تجاه العثمانيين في ليبيا وسياسة أحمد الشريف وصولًا إلى لجوئه إلى مصر وتطوّر علاقته ببريطانيا وانحيازه للحلفاء.

أمّا القسم الثاني فكان بعنوان "من التحالف العسكري إلى مشروع بيفن ــ سيفورزا 1949"، وقد تطرّق الباحث في الفصل الأول منه للتحالف العسكري الإنجليزي السنوسي 1939 ــ 1943 والظروف التي دفعت إلى ذلك مبيّنًا دور المهاجرين الليبيين في مصر في دعم هذا التحالف وتشكيل الجيش الليبي في مقاومة الإيطاليين والألمان.

كما تعرّض الكاتب لتطوّر مواقف الدول الأخرى، وبالخصوص بريطانيا العظمى من استقلال ليبيا، فرغم الوعود التي قدّمتها للسنوسيين بمنحهم الاستقلال فإنّها تلكأت في تحقيقها، بل اتُهمت من قبل القيادات السنوسية بـ"خيانة" القضية الليبية بعد أن تبنّت مشروع بيفن ــ سيفورزا لتقسيم ليبيا بينها وإيطاليا وفرنسا وإصدار هيئة الأمم المتحدة قرارًا في مايو/أيار 1949 يقضي بوضع الأقاليم الليبية تحت الحماية الغربية (فزّان تابعة لفرنسا، طرابلس تابعة لإيطاليا، وبرقة تابعة لبريطانيا)، إلّا أنّ هذا المشروع تمّ إسقاطه بالأمم المتحدة عن طريق أمين سان لو، مُمثّل هايتي بالأمم المتحدة الذي صوّت ضد رغبة بلاده.

توصّل الباحث إلى عدّة استنتاجات نذكر منها على الخصوص حِرص إنجلترا مبكّرًا على ربط العلاقة مع الحركة السنوسية باعتبارها حركة سياسية ذات مرجعية دينية (طريقة صوفية قبلية) لها امتدادات واسعة في أفريقيا، وبرز ذلك في عهد أحمد الشريف (1902-1916) الذي استنجد بهم لإيقاف زحف القوات الفرنسية في اتجاه الكفرة، نظرًا لكونها جزءًا من الإمبراطورية العثمانية. كما عملت على نسج علاقات وطيدة مع العديد من الزعامات التقليدية الليبية عكس الاستعمار الفرنسي تحديدًا الذي كانت علاقاته متوتّرة في الغالب مع تلك الفئة في بلدان المغرب العربي خاصة.

تمكّن الباحث من معالجة الموضوع من زواياه المختلفة وتحديد مظاهر ذاك التنافس وخلفياته في الميدان السياسي والاستراتيجي، وإن تركّز البحث أساسًا على دراسة عوامل ومظاهر العلاقات الإنجليزية السنوسية، فإنّه أبرز وحلّل بدقة أبعاد التنافس بين القوى الكبرى على ليبيا وانعكاس ذلك على الجوار الليبي المُستعمر من قبل فرنسا، وتأثير كل ذلك على النشاط الوطني العام في المنطقة.

أمّا على المستوى المنهجي، فقد وفّق الباحث في استخدام منهجية التاريخ المقارن والكمّي كما وظّف بامتياز عديد العلوم الرديفة التي ساعدته على معالجة الإشكاليات الرئيسية والفرعية المختلفة لموضوع بحثه وحرصه الواضح على تقديم الإضافة التاريخيّة، والكشف عن مختلف مظاهر التنافس بين القوتين الاستعماريتين في المنطقة وعمق وحدود التناقضات التي حكمت الإمبرياليتين الفرنسية والإنجليزية.

موضوع تاريخي يُساعد على فهم تعقيدات الراهن الليبي وتكالب القوى الدولية والإقليمية على خيرات الليبيين

وقد تطلّب كل ذلك من الباحث الاطلاع على كمّ هائل من الوثائق الرسمية وخاصّة الأرشيفات الفرنسية سواء منها النسخ المطابقة للأصل الموضوعة في المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر أو أرشيف مركز الجهاد الليبي، وخاصّة وثائق الخارجية الإنجليزية المحفوظة بـ"مكتب السجلات العامة" (Public Record Office) الكائن بضواحي لندن وغيرها من المصادر والمراجع باللغات الثلاث.

إجمالًا، يمكن اعتبار هذا الكتاب إضافة متميّزة للمكتبة العربية باعتباره موضوعًا تاريخيًا قد يُساعد على فهم الراهن الليبي وتعقيداته ودور القوى الدولية والإقليمية، وتكالبها على السيطرة على خيرات الشعب الليبي بطريقة تبدو في الظاهر ناعمة في شكلها، ولكنها عنيفة مضرة بوحدة الشعب الليبي ومصالحه، بل وبمصالح الجوار الجغرافي والحضاري لليبيا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن