ينبغي، إذن، أن لا نتجاهـل حقائق الواقع ونحن نفـكّـر في مستـقـبلٍ وحـدويّ للأمّـة العربيّـة وإلاّ انساق وعـيُـنا نحو "إرادويّـةٍ" لا تجتـرح إمكانًا ولا تفتح أفـقًا. ومعنى ذلك أنّ أشكال الوحـدة وأُطُـرَها المختـلفة ليست موضعَ مفاضَـلـةٍ وفـقًا للأهـواء والينـبغـيّـات، وإنّما ترسُم الطّريق إليها "الضّـروراتُ" التي يفرضها الواقع فتضع الإرادةَ والوعيَ والفعلَ في نطاق مساحـةٍ من الخيارات الحـرّةِ محدودةٍ للغايـة. وقـد يعادل تجاهـلُ الواقع ومعاندتُـه باسم الإرادة، في مثل هـذه الحال، الاصطدامَ العنيف بأحكامه وإضاعـةَ فرصـة كسْب الممكنات المُـتـاحـة في إبّانها المناسب. لذلك، لا مندوحة عن تنزيل المعطى التّاريخيّ (الواقع الموضوعيّ) منزلةَ المعيار الذي نحـدِّد بـه شكل الوحـدة "المناسـب" لظروفـنا العربيّـة.
يُعبِّـر مفهومُ الاتّحاد عن فكرة الوحدة فيكون معناها هو اتّحادُ كيانات وليس انمحاءً لها وذوبانًا في كيانٍ واحد
وظروفُـنا التّاريخيّـة والسّياسيّـة ناطـقةٌ بالحقـيقـة المزمنة التي لا تَـقْـبَـل الإنكـار: رسوخُ كيـان الدّولة الوطنيّـة (أو الدّولـة القُطريّـة في تعبيـرٍ قـوميّ كلاسيكيّ) ونُـمُـوُّ وطنيّـاتٍ عربيّـةٍ متعـدّدة في نطاق الأمّـة تعبّـر عنها تلك الكيانات وتُحقِّـق - هـي - نفسَها داخل تلك الكيانات. يفرض هـذا التّوزيع السّوسيو- سياسيّ للجماعـة العربيّـة، في صورة شعوبٍ تعيش داخل دولٍ وطنيّـة، رؤيـةً أخرى إلى الوحدة غـير تلك التي دُرِجَ على اعتـناقها؛ والتي تبدو فيها الوحدة محْـوًا كاملًا للكـيانات - بدعـوى أنّـها تجسيدٌ سياسيّ ماديّ لفِـعْل التّجزئـة الكولونياليّ - وصَـهْـرًا لها جميعِـها في كيـانٍ واحـدٍ موحّـد. الرّؤيـة الجديدة التي تفرض نفسها هي التي يعبِّـر فيها مفهـومُ الاتّـحاد عن فكـرة الوحـدة ويتجلّـى فيه هـدفُـها، فيكون معنى الوحـدة - بهذا الاعتـبار الذي يفرضه الواقع - هو اتّـحادُ كيانات وليس انمحاءً لها وذوبـانًا في كيانٍ واحـــد.
حين تأخـذ الوحدةُ شكـلَ اتّحـادٍ - على نحـو ما نزعُـم أنّـه المُـمكِـن الأَوْفـق - يـقع التّسليـمُ، حُـكْـمًا، بأنّـه ينشأ ويُـبْـنَـى من قبل شركـاء فيه؛ وليس الشّـركاء أولاء سوى الدّول الوطنيّـة العربيّة نفسها: مِـن التي تُـدْرِك مقدار ما لديها من مصلحـةٍ في ذلك الاتّـحاد فـتجـنح له. وغـنيٌّ عن البيان أنّ الاتّـحاد لا يتحـوّل إلى أمـرٍ واقـعٍ بفعل الشّـراكة إلاّ متى وقع توافـقٌ بين الشّركاء عليه؛ وهـذه، قطـعًا، مـن آكـدِ موارد القـوّة في الاتّحـاد (حيث ينشأ بمقتضى التّوافـق والتّراضي) وممّا تتـوطّـد به مشروعيّـتُـه التي تتعـزّز، أيضًا، بالاستـفتـاء الشّـعبيّ عليه في كـلّ بلد أو بمصادقـة البرلمانات على الاتّـفاقـيّـة التي يقوم بمقتضاها.
ينبغي أن لا يقع إكراه الدّولة غير المنضوية في مشروع الاتّحاد على الانضواء فيه
وقـد يحصل أن لا يقع الاتّـفاق والتّوافـق على إقامـة اتّحـادٍ عربيّ من الدّول العربيّـة جميعِـها، بل من قـسمٍ منها: كثيـرٍ أو قليل. ينبغي، في مثل هـذه الحال، أن لا يتعطّـل فعل الوحـدة ويُـعَـلَّق على قبول «س» أو «ص» من الدّول الانضمام إليها، بل ينبغي أن يُـشْرَع فيه بمن وافـق على الوحـدة. هذه واحدة؛ الثّانيـة أن لا يقع إكـراه الدّولة - أو الدّول - غير المنضوية في مشروع الاتّحاد على الانضـواء فيه؛ لأنّ في ذلك انتهاكًا لمبدأ التّـوافُـق الذي لا يستقيم إلاّ متى وقـع التّسليمُ بالحـقّ في الاختيار الطّوعيّ والحُـرّ لكلّ دولة؛ لأنّ ذلك - أيـضًا- من مقتضيات مبـدأ سيادتها: المبدأ الذي لا مصلحة لأيّ وحـدة - خصوصًا في لحظة الإنشاء - أن تستـثيـرَهُ فـتـسـتـنـفِـرُهُ في وجهها.
(خاص "عروبة 22")