حضر وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى المنطقة، في جولة هي الخامسة له منذ بداية العدوان إلا أنه أخفق في الوصول إلى إتفاق يستخدمه الرئيس جو بايدن في السباق الإنتخابي في مواجهة الرئيس السابق دونالد ترامب، وانعقد اجتماع القاهرة الرباعي الأمني ولم يستطع لجم الجموح الإسرائيلية نحو استكمال عملية "الإبادة الجماعية" ضد الفلسطينين المتكدّسين في رفح!.. في العلن توحي إدارة بايدن بأنها لا تسعى فقط إلى الوصول إلى إتفاق عادي لوقف إطلاق النار، بل تطمح إلى ما هو أبعد من ذلك، لكنها، على أرض الواقع، ترسل إشارات متناقضة سواءً على المستوى العسكري أو على المستوى السياسي من الأحداث.
عسكريًا، تحشد الولايات المتحدة وتقصف وتغتال وتعطي "الضوء الأخضر" لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لاجتياح رفح، بينما بايدن نفسه كان قد اعتبر، قبل أيام، أنّ الرد الإسرائيلي على الهجوم الذي شنته "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول كان ردًا "مفرطًا تجاوز الحد".
كذلك سياسيًا، تواصل واشنطن "اللعب على الحبال" بين إعلان درسها الاعتراف بـ"الدولة الفلسطينية" من جهة، وتأكيد عزمها من جهة أخرى على المضي قُدمًا في عملية "التطبيع" بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية بمعزل عن حلّ القضية الفلسطينية، ما اضطر وزارة الخارجية السعودية إلى إعادة تصويب الموقف بالتشديد، ردًا على ما ورد على لسان المتحدث بإسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي بشأن التطبيع، على أنّه لن يكون هناك أي علاقات مع إسرائيل ما لم يتم الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
أمام هذا الواقع، ترى مصادر عربية واسعة الاطلاع عبر "عروبة 22"، أنّ "شيئًا لم يتغيّر في مقاربة واشنطن للقضايا العربية عمومًا وللقضية الفلسطينية على وجه أخصّ، وجلّ ما يبرز بين الحين والآخر حول وجود بعض الاختلافات في التوجهات بين الإدارة الأميركية وإسرائيل هو اختلاف "تكتيكي لا جوهري"، ففي عمق الموقف لا تزال واشنطن تتجاهل بشكل تام المطالب العربية الواضحة لناحية ضرورة الضغط لوقف إطلاق النار، بل هي على العكس من ذلك تواصل مدّ العدوان الإسرائيلي بالسلاح والمال في ميدان الحرب، والغطاء السياسي في المحافل الدولية والأممية والقضائية".
وعليه، من وجهة نظر المصادر نفسها، تتعاطى الولايات المتحدة مع العالم العربي على قاعدة "التخدير الإعلامي" مقابل مواصلة "الدعم العملي" لإسرائيل، واضعةً ضمن هذا الإطار عملية بثّ التقارير الممنهجة في وسائل الإعلام الأميركية عن وجود خلافات مع القيادة الإسرائيلية. وذكّرت في هذا السياق بأنّ صحيفة "واشنطن بوست" كانت قد أفادت بأنّ الرئيس الأميركي وكبار مساعديه يقتربون من "نفض أيديهم" من رئيس الوزراء الإسرائيلي، وأنّ الإدارة الأميركية لم تعد تعتبر نتنياهو "شريكًا إيجابيًا"... وما هي إلا ساعات قليلة حتى تم الكشف عن إتصال هاتفي بين بايدن ونتنياهو حصل فيه الأخير على دعم الأوّل في سبيل استكمال خطته العسكرية ضد الفلسطينيين في رفح!.
الطريقة نفسها، التي تتعامل فيها الإدارة الأميركية مع العالم العربي، تعتمدها أيضًا في التعامل مع الجاليات العربية والإسلامية في الولايات المتحدة، نظرًا إلى أنّ إدارة بايدن بدأت تتنبه إلى تعاظم حالة الإمتعاض لدى هؤلاء من سلوكها الداعم للمجازر الإسرائيلية في غزّة، وهو ما دفعها إلى تكليف مسؤولين فيها الاجتماع مع فعاليات العرب الأميركيين في ولاية ميشيغان، بهدف محاولة إعادة استمالتهم انتخابيًا، سيّما وأنّ الأصوات العربية والإسلامية مؤثرة في العديد من "الولايات المرجّحة"، ما يعني أنّ حرمان بايدن من هذه الأصوات التي كان قد نالها في الانتخابات الماضية، قد يقود إلى خسارته المعركة في مواجهة منافسه الجمهوري.
وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" قد كشفت أنّ مساعد بايدن، جون فاينر، نائب مستشار الأمن القومي، قد اعترف خلال الاجتماع مع ممثلي العرب الأميركيين، بوجود "أخطاء" في رد فعل الإدارة على الحرب في غزّة، ونقلت عنه أنه "كشف أنه ليس لديه أي ثقة في أن الحكومة الإسرائيلية مستعدة لاتخاذ خطوات هادفة نحو إقامة الدولة الفلسطينية"، مقدّمًا بعضًا من أوضح تعبيرات الإدارة عن "الندم"، على ما أسماه "الأخطاء" التي ارتكبتها منذ بداية أعمال الحرب، وتعهّد بأنها "ستفعل ما هو أفضل"!.
وفي الجهة المقابلة، يبدو أنّ الواقع الذي تمرّ فيه الحكومة الإسرائيلية لا سيما رئيسها نتنياهو، يجنح نحو المزيد من التصعيد، و"تقطيع الوقت" بانتظار الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهو ما عبّر عنه وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، الذي انتقد إدارة بايدن، معتبرًا أنه "لو كان ترامب في السلطة، لكان سلوك الولايات المتحدة مختلف تمامًا".
في المحصّلة، تخلص المصادر العربية إلى التشكيك بإمكانية أن تبادر الإدارة الأميركية إلى أكثر من "المواقف الإعلامية في ممارسة الضغط على تل أبيب، بهدف التخفيف من حدة الضغوط التي تتعرض لها هي نفسها من الرأي العام الأميركي والعالمي نتيجة المجازر الإسرائيلية بحق المدنيين الفلسطينيين"، وتختم: "باختصار لو كانت الولايات المتحدة جادة في الضغط على إسرائيل، لكان لديها الكثير من الأدوات التي تستطيع أن تستخدمها لوقف الحرب.. لكنها ببساطة لا تريد إيقافها قبل أن تحقق إسرائيل أهدافها".
(خاص "عروبة 22")