فحتى لو صدر هكذا قرار لم تكن هناك ضمانة لتنفيذه فعليًا طالما لم تقرر الولايات المتحدة ذلك، كما لم ينفّذ القرار الصادر ضد روسيا، كونها تملك حق الفيتو في مجلس الأمن. ما يعني أنّ الأثر الحقيقي للمحاكمة يظلّ دبلوماسيًا وإعلاميًا وأخلاقيًا بالأساس، وهو ما تحقق بوقوف إسرائيل أمام المحكمة، كمشكو في حقه، ربما للمرة الأولى، بعد أن ظلّت تُصدّر صورتها كضحية لعقود طويلة. لكن يبقى السؤال الأهم في هذا السياق: لماذا كانت جنوب أفريقيا هي بطل الحدث الكبير، وليس أية دولة عربية؟.
نيلسون مانديلا حقق الحلم الأفلاطوني حيث صار الحكيم حاكمًا
في كتابه ذائع الصيت "الجمهورية"، نظر الفيلسوف أفلاطون بعين الريبة إلى الإنسان العادي، وأبدى تشككًا في قيمة الإرادة العامة للجماهير (الديمقراطية)، مؤكدًا على أنّ الحاكم الوحيد الذي يصلح لسياسة مدينته الفاضلة هو ذلك الرجل الحكيم (الفيلسوف) الذي يمكنه إدراك مواقع الفضيلة ووضع نفسه في خدمتها. لكن، وعبر عصور طويلة ظلّت مدينة أفلاطون خارج هذا العالم، ولم يحكم الفيلسوف أبدًا. فإذا ما تصادف ومارس الحكم لم يعد فيلسوفًا، لأنّ للحكم مقتضياته، هكذا قال الحكيم الصيني كونفوشيوس لتلاميذه الذين انتشروا في مرافق الإمبراطورية، مبررًا سلوك حكامها وداعيًا إلى إطاعتهم.
وهو عينه ما أكده مكيافيللي وهوبز وهيجل، وغيرهم من مفكرين فصلوا السياسة عن الأخلاق وصبغوها بالأنانية والدنيوية والشمولية. لكن نيلسون مانديلا، وحده، حقق الحلم الأفلاطوني، حيث صار الحكيم حاكمًا، ناضل لأجل العدالة وثار على الظلم من دون كراهية للظالمين خشية أن ترتد الكراهية بآثارها على المظلومين. لقد أدرك الرجل، وهذا سر عبقريته، أنّ الحياة تتسع للجميع، وأنّ الكراهية مميتة للجميع، وأنّ الانتقام الحقيقي من ماضٍ قبيح هو صناعة مستقبل أجمل، أكثر عدلًا وأوسع أملًا. ففي خطاب تتويجه رئيسًا (1994)، أعلن تسامحه مع من طردوه من فضاء الحرية وأوثقوه بالأغلال، وهو ما لا يتأتى إلا من روح عظيمة، تدرك أنّ الظلم متاهة الظالم لا المظلوم، وأنّ الثأر متاهة المظلوم لا الظالم.
هذا هو الإرث الكبير الذي حفَّز جنوب أفريقيا على تلك المبادرة، ففي لحظة استأسد فيها الظلم وخفت صوت العدل، حيث الأقوياء سادرون في الغي لا تكاد ضمائرهم تستفيق إلا لمحة، وذوو القربى من العرب يتلعثمون في لغة الخوف لا تكاد الحروف تخرج من أفواههم إلا عنوة، دوى صوت الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا بلغة إنسانية سامقة: لن تكتمل حريتنا إلا بتحرّر فلسطين، فيما كان فريقه القانوني الرائع يُقدّم في أربع وثمانين صفحة، فضلًا عن الفيديوهات المصوّرة، توثيقًا للمذابح التي قامت بها إسرائيل في حق المدنيين الفلسطينيين، خصوصًا النساء والأطفال.
11 يناير 2024 أصبح تاريخًا كاشفًا عن نمطين نقيضين من الروح الإنسانية
وهكذا أصبح الحادي عشر من يناير/كانون الثاني 2024، تاريخًا كاشفًا عن نمطين نقيضين من الروح الإنسانية. فثمة روح سوية، عانت الظلم فكرهت مذاقه، ولم تسعَ إلى ممارسته ضد غيرها، حتى على ذلك الذي كان قد ظلمها، بل كرّست جهدها للقضاء على الظلم انتصارًا لحرية الإنسان دون تقسيم أو تمييز، وتلك هي حالة جنوب أفريقيا التي عانت طويلًا من التمييز العرقي والفصل العنصري. وثمة روح سادية، عانت من الظلم، فلم تكرهه، بل أدمنت ممارسته ضد غيرها. والأخطر من ذلك أنها لم تمارسه ضد من ظلمها بالفعل، والذي لا تستطيع النيل منه، بل ضد طرف آخر لم يظلمها قط، كونه الابن الطبيعي للثقافة التي عطفت على أسلافه واحتوتهم داخل مجتمعاتها، ومنحتهم أدوارًا مؤثرة في بنية حياتها، وتلك هي حالة إسرائيل، التي عانت من المحرقة النازية لليهود، فلم تتردد في إشعال المحارق للفلسطينيين. لم يرَ عقلها الصهيوني المراوغ في ذلك تناقضًا بل تجارة، يذرف دموع الألم الزائفة عند أقدام الأقوياء الظالمين، ليمنحوه من القوة المالية والعسكرية، زادًا يضرب به الضعفاء المظلومين، وهكذا جعل من المظلومية سيفًا، وضعه على رقبة غيره من المقهورين، ليتناسل الظلم، وتتكرر المآسي، ويزداد الوضع البشري تدهورًا.
(خاص "عروبة 22")