جاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن إلى المنطقة الأسبوع الماضي، والتي شملت كلا من السعودية ومصر وقطر وإسرائيل، إضافة إلى الضفة الغربية، في ظل أحداث متسارعة ومتأزمة على مستوى الاقليم ككل، بعد الضربات العسكرية التي وجهتها الولايات المتحدة ضد فصائل وميليشيات موالية لإيران في مناطق متفرقة من سوريا والعراق واليمن، ردا على غارة بطائرة مسيرة على إحدى قواعدها العسكرية شرق الأردن، أسفرت عن مقتل ثلاثة من جنودها وإصابة العشرات.
ومع ذلك، سعى بلينكن في زيارته إلى التأكيد أن بلاده لا تسعى لتوسيع نطاق الحرب خاصة مع إيران، ولا أن تُفسر ضرباتها الأخيرة على أنها تصعيد للصراع فى الشرق الأوسط، بل على العكس فهي ترغب في تغليب الحلول الدبلوماسية، وإقرار السلام بين إسرائيل والدول العربية، والدفع قدما بما تم إنجازه على صعيد اتفاقيات أبراهام مع البلدان الخليجية، مقابل اتخاذ خطوات ملموسة لوضع نهاية للصراع العربي الإسرائيلي وفق حل الدولتين، والضغط على إسرائيل لقبول هذا الخيار في إطار صفقة شاملة، وهو ما صرح به أمام مؤتمر دافوس بسويسرا الشهر الفائت، بقوله: إن هناك معادلة جديدة يجب العمل من أجلها حيث يكون جيران إسرائيل مستعدين لدمجها في المنطقة، لكنهم في حاجة إلى رؤية طريق واضح لإنشاء دولة فلسطينية، ومن سيحكم غزة بعد الحرب، على ضوء الاصلاحات التي يتعين على السلطة في رام الله القيام بها حتى تتمكن من حكم القطاع وتوحيده مع الضفة، وإن جميع هذه الأمور تتطلب تنازلات من الإسرائيليين والفلسطينيين.
هذا باختصار هو جوهر المشروع الأمريكي للسلام، والذي تراهن واشنطن على سرعة انهاء الحرب لتنفيذه وكسب رضاء الدول العربية المعتدلة من خلاله، والوصول لحل نهائي للقضية الفلسطينية بما يضمن استبعاد، أو إضعاف القوى الراديكالية التي تندرج تحت ما يُعرف بمحور الممانعة الذي تتزعمه طهران والرافضة أصلا لمبدأ التسوية السلمية.
لذلك يُعد نظام الجمهورية الاسلامية بمثابة حجر عثرة في سبيل الوصول لهذا الهدف، لكن المعضلة هنا، أن الاستراتيجية الأمريكية تبدو متأرجحة ما بين سياستي المواجهة والاحتواء تجنبا لصدام مباشر، قد يعيد جهود التسوية إلى المربع رقم واحد، ويُدخل المنطقة في حالة فوضى يصعب السيطرة عليها. والواقع، أن مواقف واشنطن منذ بدء حرب غزة تؤكد هذه الفرضية، فعلى الرغم من العلاقة الوثيقة بين الحرس الثوري الايراني وكتائب عز الدين القسام التي نفذت عملية طوفان الأقصى، وتثبت ضلوع طهران فيها، إلا أن بلينكن سارع في اليوم التالي لنفي هذا الاحتمال، معلنا أن «بلاده لا تملك معلومات بشأن وقوف الأخيرة وراء العملية» والشيء نفسه كرره وزير الدفاع لويد أوستن بعد استهداف القاعدة الأمريكية في الأردن حيث أشار إلى: أنه ليس من الواضح مدى علم إيران بالهجوم على قوات بلاده هناك.
إن هدف تقليص أذرع إيران الطويلة في المنطقة، وتقويض سياساتها التوسعية لإرجاعها إلى داخل حدودها، هو أمر متفق عليه ومشترك بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ولكن الخلاف فقط في الأسلوب، فالجمهوريون يفضلون المجابهة السريعة، بينما ترغب الإدارات الديمقراطية في الاعتماد على أسلوب الردع وإضعافها إلى أقصى قدر ممكن عن طريق تقييد عمل حلفائها ومحاصرتهم، لذا وبرغم بعض الخلافات التي ظهرت على السطح بين الإدارة الحالية وإسرائيل بشأن مستقبل غزة ومسار السلام، إلا أن ما لم يتغير هو نظرتهما المتطابقة حول القضاء على حماس وإخراجها من المعادلة مستقبلا، باعتبارها حليفا رئيسيا للإيرانيين.
أما الجمهورية الاسلامية، فاستراتيجياتها ليست أقل تعقيدا، وهي بدورها غير مباشرة في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل بالتبعية، ويدلل على ذلك تصريح رئيسها إبراهيم رئيسي بأن بلاده لن ترد على أي ضربات ما دامت لا تستهدف الداخل الايراني، والمعنى الضمني أنها لن تتدخل في الهجوم المضاد الذي شنته واشنطن على ميليشياتها المسلحة في الخارج، وهو ما حدث بالفعل، وذلك حتى يظل الصراع محكوما، ولا تتسع مساحات المواجهة وتجبرها على الانخراط في حرب مفتوحة. وبالتزامن، بدأ وكلاؤها في التراجع، فأعلنت «كتائب حزب الله العراقي» عن قرارها بتعليق عملياتها ضد القوات الأمريكية، كما حذت فصائل أخرى نفس الحذو، بل وحاولت تبرئة ساحة طهران بنفيها علمها عن العمليات الهجومية التي قامت بها، بزعم استقلالية قرارها الذي تتخذه بدون توجيهات إيرانية، مثل ما ادعته جماعة الحوثي في اليمن بعد أعمال القرصنة التي نفذتها في البحر الأحمر وهددت بموجبها الملاحة الدولية، وحتى حزب الله اللبناني أهم حليف لها، حافظ على رد فعل محسوب ومتواضع بعد تصعيد إسرائيل لعملياتها القتالية ضده، وقام بسحب جزء من قواته في المناطق الحدودية.
كذلك لم تقم إيران بالرد على اغتيال بعض قاداتها من الحرس الثوري بخلاف تصريحاتها الدعائية، فهدفها واضح وهو الحفاظ على مكتسباتها في الدول التي سيطرت عليها، وحققت بها التمدد الاقليمي وزيادة النفوذ الذي تربو إليه، وهو ما يضطرها دائما لاتباع سياسة حذرة تمنعها من المواجهة الصريحة مع القوة الأكبر في العالم، وحرب غزة ليست استثناء، إذ أرادت فقط إثبات أنها تملك ورقة المقاومة، دون انخراطها فيها، وهذه رسالة في حد ذاتها، والرسالة الأخرى التي ترسلها من خلال الاشتباكات التي يقوم بها وكلاؤها، فهي، أنها ستظل رقما صعبا يجب أخذه في الاعتبار في أي ترتيبات إقليمية، رغم أنه أمر مشكوك فيه، بحكم أوضاعها الداخلية المتدهورة، خاصة على مستوى الاقتصاد وعزلتها الدولية بفعل العقوبات المفروضة عليها، وكونها ليست ندا لإسرائيل، وربما لهذا تكتفي واشنطن بأسلوب الردع معها حتى اللحظة الراهنة.
("الأهرام") المصرية