مع دخول العدوان على قطاع غزّة الشهر الرابع، لم تكن عمليات القتل الممنهج والإبادة الجماعية التي تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق أهل غزّة، كافية كي تمارس الحكومات الغربية والإدارة الأمريكية ضغطًا ولو شكليًا على إسرائيل حتى توقف إطلاق النار أو على الأقل توجيه اللوم لحكومة تل أبيب التي ضربت بكافة المواثيق والقوانين الدولية عرض الحائط.
وبينما كانت الحقائق جلية وواضحة، بشأن الانتهاكات والجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال، كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن وشركاؤها الأوروبيون يبررون تلك الجرائم وينكرون بتبجح أنّ إسرائيل تجرم في حق الإنسانية.
سلسلة طويلة من جرائم الحرب، التي قام بها جيش الاحتلال وحكومته، فمن مذبحة مستشفى الأهلي المعمداني، مرورًا باقتحام مشافي القطاع واحدة تلو الأخرى، وقصف وحصار مراكز إيواء النازحين التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، التي ترفع العلم الأزرق والمشمولة بحماية أممية وفقًا للقانون الدولي، ودهس المصابين في الخيام المنتشرة بمحيط المستشفيات الكبرى، ونبش المقابر وانتهاك حرمات الموتى، كل ذلك لم يقنع حكومات الغرب باتخاذ موقف جاد يحثّ إسرائيل على التوقف.
حتى جريمة منع المساعدات والغذاء والدواء عن 2 مليون إنسان في القطاع، والتي أشارت لها محكمة العدل الدولية في الدعوى المقامة من جمهورية جنوب أفريقيا، وتحدث البيت الأبيض أكثر من مرّة عن "ضغوط ومطالبات" للحكومة الإسرائيلية للسماح بدخول شاحنات الغذاء والدواء للقطاع، لم تكن كافية لأن تتخذ واشنطن قرارًا صارمًا ضد شريكتها في الشرق الأوسط لوقف تك الجرائم.
لكن على النقيض تمامًا ورغم سلسلة طويلة من الروايات المتعدّدة التي روّجتها تل أبيب طوال فترة الحرب الدائرة والتي أثبتت الأيام المتلاحقة كذبها، سارعت الحكومات الغربية والإدارة الأمريكية في الإعلان عن وقف تمويل "أونروا" بعد اتهامات روّجتها الحكومة الإسرائيلية ضد المنظمة الدولية في القطاع، عقب ساعات قليلة من قرار محكمة العدل الدولية والذي حمل بين طياته إدانة لممارسات إسرائيل في غزّة.
وتزعم الحكومة الإسرائيلية أنّ 11 من موظفي "أونروا" في القطاع انتسبوا لحركة "حماس" كنشطاء فيها، فيما انتسب موظف آخر إلى صفوف حركة "الجهاد الإسلامي"، زاعمةً أن تتبع هواتف 7 من هؤلاء أشار لتواجدهم داخل إسرائيل خلال عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وكندا وإيطاليا وفرنسا ومعهم 6 حكومات أخرى، لم يحرّكوا ساكنًا أمام "مقتل 145 من موظفي الوكالة الدولية في قطاع غزّة على أيدي جيش الاحتلال، واستهداف قوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة، وكذلك استهداف مرافق وملاجئ ومدارس ترفع العلم الأزرق في القطاع حتى الأول من يناير/كانون الثاني فقط بحسب مدير شؤون "أونروا" في غزّة، توم وايت، لكنهم سرعان ما انتفضوا ودون أدنى تحقيق إزاء ما تروّجه تل أبيب، رغم تعدّد الوقائع التي روّجت فيها روايات ثبت كذبها وكان منها على سبيل المثال لا الحصر، مزاعمها باقتحام مجمع الشفاء الطبي بوسط القطاع بدعوى تواجد مقر قيادة عمليات "حماس" وزعيمها يحيى السنوار في نفق متعدد الطوابق أسفله.
وبفرض صحة ما تصفه إسرائيل بالمعلومات بشأن مشاركة 12 من موظفي الوكالة الدولية في "طوفان الأقصى"، فكم تبلغ نسبة هؤلاء من أصل 30 ألف موظف يعملون بـ"أونروا"، بينهم 13 ألف موظف في غزّة وحدها، فحتى لو صحّت الرواية الإسرائيلية فهل يمكن القياس على هذا الرقم من بين آلاف العاملين لوصم موظفي الوكالة وأعمالها؟ أم أنّ الأمر يحمل أبعادًا أخرى تتمثّل في لفت الانتباه عن الإدانة التي حملها قرار "العدل الدولية" لتل أبيب، أو لخدمة هدف أبعد ربما يكون مرتبطًا بتهجير سكان القطاع الذين يعتمدون بدرجة كبيرة على "أونروا" في تلبية احتياجاتهم، أو كسر صمود غزّة ومقاومتها بعد فشل آلة الحرب الإسرائيلية وقوة النيران الهائلة المستخدمة في إخضاعها، وإجبار المقاومة على إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين دون شروط.
(خاص "عروبة 22")