منذ القدم، يستشري الفساد، أكان السياسيّ أو الإداريّ أو الماليّ في المنطقة العربيّة، وتتفاقم تداعياته السلبيّة على المجتمعات والشعوب العربية، كونه عقبة في وجه تحقيق التّنمية والاصلاح والاستثمار الصّحيح في مجالات مختلفة، والدليل على ذلك أنّ كلفته المرتفعة على مرّ العقود، تسببت بإعاقة النمو الاقتصاديّ وغياب الفعاليّة الاقتصاديّة في غالبيّة دول الوطن العربيّ (راجع: "كلفة الفساد" في الوطن العربي... "مافيا منظّمة" تنهب البلاد والعباد!).
وعن أسبابه الرئيسيّة، يعتبر خبراء الاقتصاد وعلم الاجتماع، أنّ الفساد في الوطن العربيّ، سببه سياسيّ بحت يقوم أساسًا على ضعف التّشريعات وأنظمة الرقابة والمحاسبة، ورفض غالبيّة الطبقة الحاكمة في الوطن العربيّ أي شكل من أشكال الإصلاح خشية اهتزاز فرص بقائها في سدّة السلطة وتقوبض سيطرتها على مقدّرات البلاد، فضلًا عن دعم الغرب ذي الطابع الاستعماري تولية شخصيات غير كفوءة محاطة بمعاونين فاسدين شؤون الحكم في الدول العربية لمنع نهوض الأمّة وإبقائها أسيرة الاستبداد والتشرذم والتخلّف.
الفساد.. وأسبابه
ويرى الباحث ومدير المجموعة المصرية للدراسات البرلمانية عبد الناصر قنديل، في حديث لـ"عروبة 22" أنّ هناك ثلاثة أسباب معزّزة لبيئة الفساد في الحالة العربيّة:
السبب الأوّل هو ضعف البنية التشريعيّة والمؤسسات الرقابيّة التي يقدّر لها وفقًا للدستور أن تمارس دورًا واضحًا في الرقابة على السلطة التنفيذيّة وعلى الممارسات الحكوميّة وتتولى عملية محاسبة المسؤولين عن وقائع الفساد أو إهدار المال العام، وفي الحالة المصرية، فإنّ المادة 101 من الدستور المصري أعطى للبرلمان 5 أدوار أساسية، ذكر في الخامس منها، الرقابة على السلطة التنفيذيّة، إذ إنّ ضعف البنية التشريعية والرقابية يعني عدم القدرة الحقيقية على القيام بالدور الرقابي المعزز للنزاهة والشفافية بما يتفق مع الاتفاقات الدوليّة والأمميّة المعنية بهذا الأمر، مثل الإتفاقيّة الدوليّة لمكافحة الفساد، والتي ذكرت في المادة رقم 7 أدوارًا واضحة للمؤسسات التشريعيّة في القيام في دور حقيقيّ في مكافحة الفساد".
أما السبب الثاني، فهو أنّ المنطقة العربيّة يسود فيها "فساد كبير" عبارة عن "الفساد بالقانون"، وهو نمط "يتم وفقًا لإجراءات تشريعيّة قانونية تسمح بممارسات الفساد ولا تعاقب عليه، وفي النظر إلى الحالة المصرية، نجد أن هناك قصورًا واضحًا في قانون المزايدات والمناقصات فيما يتعلق بتسعير الخدمات والتأخر في عمليات الوفاء بالالتزامات والمؤشرات الفنيّة وإتمام الخدمات العامة، وعند النظر إلى كل هذه الأمور نجد ان هناك حالات عديدة يحدث فيها الفساد العنيف الذي يؤثّر على الموازنة العامة وعلى حياة المواطنين، وفي الوقت ذاته لا يمكن إجراء المحاسبة ولا التدخل من أجل الردع".
السبب الثالث، "والمهم جدًا"، هو الفساد الناتج عن "غياب التداول السلميّ للسلطة وغياب الأطر الديمقراطيّة" التي تلعب دورًا بالغ الأهمية في كبح منظومات الفساد الحاكمة، خصوصًا فيما يتعلق بتقديم الخدمات العامة والرقابة على صغار الموظفين، الأمر الذي أدى إلى "خطر حقيقي يتمثل بتكريس ثقافة التعامل مع الفساد باعتباره واقعًا يصعب إحتواء آثاره". وهنا نتحدث عن "بيئة ثقافية معززة للفساد لا تنظر لمرتكبه على اعتبار أنه آثم وإنما شخص "فهلوي" يحقق أعلى ربحية ممكنة من وراء المداخيل التي يحصل عليها بحكم عمله أو موقعه أو قربه من دوائر السلطة".
ويلفت قنديل بعد سرد هذه الأسباب المكوّنة والراعية لظاهرة الفساد، أنّ الاتفاقيّة الدوليّة لمكافحة الفساد ألزمت الدول التي توقع عليها، برفع تقرير دوليّ كل أربع سنوات، تتحدث فيه عن منهجيتها في التعامل والتصدي لمثل هذه الظواهر وسبل معالجتها بالشكل الذي يمكن من خلاله أن تكون نماذج يمكن الاستفادة منها في دول أخرى على البُعد الدوليّ.
المعالجة.. ووسائلها
وهنا يطرح السؤال الأهم نفسه، عن الطريقة الفعالة لأجل تحقيق الإصلاح، فيجيب قنديل: "هناك خمس وسائل هي الأبرز في إطار عملية مكافحة الفساد على المستوى الوطنيّ:
• الإعلان والعلنية، إذ يجب أن يكون لدى الدول قوانين وتشريعات تتيح الحق في الحصول على المعلومة التي يساهم غيابها في وأد أي محاولة من محاولات مكافحة الفساد.
• الإعلام والإخبار، إذ إن وجود وسائل إعلام شفافة ونزيهة تنشر وتتتبع قضايا الفساد أمر مهم للغاية كونها تشكل أداة ضغط فعالة على الممارسة السياسية وتقييدها.
• تنقية التشريعات الوطنية من تلك التي تعاني قصورًا في إجراءات مكافحة الفساد، وتقوية الأطر والأجهزة المكافحة للفساد ومنحها الاختصاصات والصلاحيات اللازمة وتوفير مظلات لبرامج تدريب وتأهيل متتابعة تسمح بتعزيز مهارات مكافحة ورصد واحتواء ظاهرة الفساد.
• ضمان ديمقراطية العمليات التنافسية ذات الاساس الانتخابيّ فيما يتعلق ببناء الكوادر على المستوى القوميّ أم على مستوى البلديات، وبالتالي فإنّ المجالس المنتخبة ديمقراطيًا هي من أهم الأدوات الرقابية لمكافحة الفساد.
• تطوير السياسات التنفيذية والحكومية، وهنا نتحدث عن برامج متخصصة لموظفي إنفاذ القانون في كيفية مكافحة الفساد، ومنحهم الصلاحيات اللازمة التي تعطيهم القدرة على التدخل وضبط الأداء فيما يتعلق بالخدمات، وفي الوقت نفسه، ضمان وجود آلية لمساءلتهم عن كيفية تقديم الخدمات وكيفية الوفاء بالالتزامات.
وفي السياق نفسه، يرى الخبراء أنّ الوسيلة الأساس في معالجة الفساد تكون انطلاقًا من تعزيز دولة القانون والمواطنة، وإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، مع التشديد على أنّ القضاء على الفساد يحتاج إلى منظومة متكاملة ومتماسكة من الأعمال والإصلاحات في مختلف المجالات التعليميّة والإداريّة والثقافيّة... وبمنهجية شاملة ومتكاملة تستهدف محاصرة بيئة الفساد والتعامل مع أسبابها ومكوناتها بحسب كل دولة.
كلفة الفساد.. والإصلاح
وإذ يتساءل البعض عن كلفة مكافحة الفساد والإصلاح، يشير قنديل إلى أنّ "طبيعة الجهود من أجل الاصلاح، هي التي جدواها في كبح الفساد"، ويقول: "الدول يفترض أن تؤمّن من خلال مكافحة الفساد المظلة والحماية والدعم للمواطنيّن، وعادة كلما زادت عمليات مكافحة الفساد، تزيد إمكانية تحسين معيشة المواطن والخدمات المقدمة إليه، من خلال استغلال أعلى وأمثل للموارد والقدرة على إيقاف النزيف المالي الناتج عن الهدر الكبير في الالتزامات العامة والأموال العامة، وبالتالي فإنّ مكافحة الفساد أصبحت ضرورة مُلحّة جدًا في الوطن العربي بالتوازي مع وجوب تطوير البنية الديمقراطيّة التي سينعكس حتمًا على ممارسات الحكم والرقابة والأداء العام وتحسين الاستفادة من موارد الدولة".
وعلى قاعدة أنّ تكلفة مكافحة الفساد ستكون أقل بكثير مما يتكبده الوطن العربيّ من هدر للثروات والمال العام، يلفت قنديل إلى أنه "عند مراجعة الموازنات العامة العربيّة راهنًا نجد أنّ هناك إهدارًا عنيفًا جدًا للموارد وضعفًا شديدًا في قدرات الدول على الإيفاء بإلتزاماتها نتيجة الفساد"، مشددًا في المقابل على أنّ قوننة الإجراءات التي تكافح الفساد، من المؤكد أنها ستنعكس على عملية "توفير الموارد التي يمكن إعادة استغلالها وتدويرها لصالح الخزينة والمواطنين.. والدليل على ذلك أنّ بعض الدول العربية التي اتبعت إجراءات رشيدة تتسم بالنزاهة والشفافيّة والمساءلة، نلاحظ أنها سجّلت تحسنًا في مستوى الخدمات المقدّمة لمواطنيها، وفي الوقت نفسه، حققت وفرة في الموارد جرى استغلالها في خطط تنمويّة أخرى تعود بالنفع أيضًا على المواطنيّن".
ويخلص قنديل إلى التأكيد على أهمية تكريس ثقافة المساءلة والمحاسبة ومكافحة الفساد في الوطن العربي، ويضيف: "نحن لا نملك اتفاقيّة إطاريّة عربيّة للتعامل مع قضايا الفساد، وربما نحتاج إلى هذه الاتفاقيّة، ولبذل جهد مشترك في سبيل وضع ميثاق للوظيفة العامة يجري التعامل به في الأطر العربيّة، وهذه الخطوات قد تشكّل مدخلًا مهمًا جدًا لتنسيق عربيّ مشترك يعزّز من مفهوم مكافحة الفساد، بما يخلق نموذجًا عربيًّا عصريًا يمكن الاعتماد عليه مستقبلًا في سبيل استنهاض الأمّة العربية".
(خاص "عروبة 22")