هكذا، فجأة ودون مقدّمات، بات ملف إصلاح السلطة الفلسطينية موضوعًا حاضرًا في الخطاب السياسي الرسمي الفلسطيني من ناحية، وفي المحادثات الرسمية، في أكثر من سياق، شأنه شأن موضوعات أقل ما تصنّف به أنها مصيرية لأنها تتعلّق بالوجود الفلسطيني نفسه الذي يتعرّض لعملية مركّبة تتضمّن: القتل الجماعي، والتطهير العرقي، والإزاحة، والإبادة؛ في آن واحد.
مراجعة المحطات الرئيسية لتاريخ القضية الفلسطينية تشير إلى وجود "تكنيك" يعتمد استراتيجية "تحويل النظر"
ومع تكرار الحديث عن "إصلاحات السلطة" راودني السؤال عمّا وراء الإلحاح على هذا الأمر الذي "غلوش" (مفردة مصرية عامية يقصد من يستخدمها معنى التعمية أو التغطية على أمر ما وربما تكون مشتقة من مفردة غشاوة) يقينًا على ما هو مصيري ووجودي.
حادثتُ أحد الأصدقاء من المعنيين بالشأن السياسي العام وشاركتُه ملاحظتي حول ما وصفتُه بـ"حديث الإصلاحات"؛ ورجوتُه ألا يتهمني بـ"الهوس بنظرية المؤامرة"، ضحك صديقي المخضرم، وقال فورًا: أعوذ بالله، وحتى أطمئنك سوف أطرح عليك سؤالًا يعكس موافقتي - تمامًا - لملاحظتك هو: ما الجديد؟ ألحقتُ سؤاله بسؤال هو: ماذا تقصد؟.
أجابني؛ بأنّ مراجعة المحطات الرئيسية لتاريخ القضية الفلسطينية تشير إلى وجود "تكنيك" يعتمد ما يمكن أن نطلق عليه استراتيجية "تحويل النظر"؛ يتم استخدامه عندما تكون هناك رغبة - وتحديدًا أمريكية إضافة للامتدادات الإقليمية - لغلق صفحة ما هو راهن من أجل بدء جديد يعفي إسرائيل من أية محاسبة أو مراجعة أو التزام من جهة ويفرض على الفلسطينيين - وحدهم - المسؤولية عن توفير الضمانات الكاملة لأمن إسرائيل إذا ما أرادوا السلام من جهة أخرى.
وبالطبع، أضفتُ من جانبي، السلام في هذه الحالة الذي لا يناقش مسائل "الاستيطان، والتهويد، والممارسات العنصرية والتمييزية والاحتلالية" لإسرائيل، وعمليًا يبقي الأمر الواقع على ما هو عليه، ألا وهو استمرار الكيان الاحتلالي كي يتمّم مسعاه الشرير في عملية تمام التهويد للأرض المغتصبة.
وفي هذا المقام، وبالعودة للمصادر المعتبرة، تأكدنا أنه منذ انطلاق قطار العملية السلامية نهاية الثمانينيات لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية راعية عادلة للسلام. ولم تكلّف نفسها يومًا، قط، في معرفة من المسؤول عن إخفاق التسوية/التفاهم/الاتفاق في كل محطة من تلك المحطات السلامية المتعاقبة: مدريد (1991)، وأوسلو (1993)، وكامب ديفيد الثانية (2000)، وآنا بوليس (2007)،...،إلخ.
فلقد دأبت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها كثير من البلدان الأوروبية على التعاطي مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بمعايير مزدوجة. فمن جانب تدعم إسرائيل دعمًا مطلقًا وتتغاضى عن كل التجاوزات التي تمارسها تجاه الفلسطينيين. ومن الجانب الآخر تفرض دومًا على فلسطين أن تقوم بإصلاحات إدارية وأمنية تصب في ضمان أمن إسرائيل.
مبادرة "إصلاح السلطة" هي حق يراد به باطل
وبالنسبة للتعاطي الأمريكي مع فلسطين، فإنّ ورقة الإصلاحات السياسية هي ورقة دومًا حاضرة منذ أوسلو. تارة لتخفي التعنّت الإسرائيلي، وتارة أخرى لإخفاء عدم عدالة الأطروحات السلامية ومدى الغبن الذي سوف يلحق بالفلسطينيين، كالعادة، وتارة ثالثة لدمج فلسطين غير المقاومة - أو السلامية على الطريقة الأمريكية - في تسويات "اقتصاد الممرات"، أو ما شابه التي تضطلع بها بالأساس النخبة الثروية في المنطقة، ولا بأس عندئذ من ترضية الفلسطينيين بدرجة أو أخرى من كعكة هكذا تسويات التي لا تعالج الإجرام التاريخي الذي طال الشعب الفلسطيني - ولا يزال - كما لا تحسم حسمًا نهائيًا القضية الفلسطينية وأيًا من ملفاتها العالقة. على العكس تمامًا، تؤبد الوضع الراهن.
إن ردة الفعل القاعدية الشعبية السلبية تجاه مبادرة "إصلاح السلطة" تكشف كيف أنّ هكذا مبادرة هي حق يراد به باطل. وإنّ هذا الأمر لن يفلح هذه المرّة. إذ لا يستقيم ولا يصح، في لحظة تاريخية تُنتهك فيها النفس وتُخرّب فيها الأرض، إثارة حديث إصلاح السلطة على حساب جريمة/كارثة إبادة الشعب. لذا لم تصمد المبادرة - المناورة - الإصلاحية هذه المرّة فسرعان ما تخلى الإعلام عنها. لقد حسم "المقاومون" موقفهم، فالأولوية هي التصدي لجريمة/لمجرمي "الإبادة"، والنضال من أجل عودة الحقوق للشعب الفلسطيني.
(خاص "عروبة 22")