اقتصاد ومال

التجارة البينية العربية لضمان الأمن الغذائي (2/2)

توقفنا في مقالة سابقة عند مفهوم الأمن الغذائي، في السياق العربي، والذي يتميّز سلبًا بتبعات الحرب الدائرة في أوكرانيا والتوتر في البحر الأحمر وانقطاع سلاسل التوريد الغذائي وارتفاع سعر الغذاء في العالم.

التجارة البينية العربية لضمان الأمن الغذائي (2/2)

إذا نظرنا في تفاصيل جودة الغذاء المتاح للفرد في العالم العربي ونصيبه من السعرات الحرارية والبروتين والدهون في الغذاء مقارنةً ببلدان غير عربية، فإنّ متوسط نصيب الفرد في العالم من السعرات الحرارية هو 2977 كيلو كالوري للفرد في اليوم، بينما نصيب الفرد في العالم العربي من السعرات الحرارية بلغ 2920 كيلو كالوري للفرد في اليوم، وهو قريبٌ من المعدل العالمي. لكن هناك عدّة فوارق بين البلدان العربية في نصيب السعرات الحرارية. فبعض البلدان العربية نصيب الفرد فيها من السعرات الحرارية منخفض عن المعدل العربي (اليمن وجزر القمر والسودان وسوريا وجيبوتي).

أما عن نصيب الفرد في العالم العربي من البروتين مقارنةً بالمعدلات العالمية، فإنّ المعدل العربي بلغ 97.2 غرام للفرد في اليوم، وهو أعلى من المعدل العالمي، أي حوالى 83.9 غرام للفرد في اليوم.

والبروتين النباتي كما هو معلوم، هو أهم مصدر للبروتين للفرد العربي، لكن بعض البلدان العربية لم تصل إلى المعدل العربي في حصة البروتين في الغذاء (اليمن وجزر القمر والأردن والعراق وجيبوتي وسوريا) في حين فاقت بلدان عربية أخرى المعدل العربي (مصر والسعودية والكويت وسلطنة عمان ودول المغرب العربي).

أمّا نصيب الفرد العربي من الدهون في المتوسط هو 80.0، وهو أدنى قليلًا من المتوسط العالمي، حوالى 98.0، وتقع مجموعة من البلدان العربية تحت المتوسط العربي (اليمن، جزر القمر، مصر، جيبوتي، العراق والسودان).

وإذا أردنا أن نشكّل صورة عامة عن الأمن الغذائي العربي بجميع مكوّناته المتكاملة، فيمكن أن نعرض المؤشر التركيبي للأمن الغذائي العربي (2022) الذي يقيس مستويات توفر الغداء والقدرة على شرائه وجودته والاستمرارية في الوصول إليه.

وبدون مفاجأة، حصلت البلدان العربية لدول مجلس التعاون الخليجي على أعلى النقاط في سلّم من 1 إلى 10 التي تشير إلى أعلى نقطة في الأمان الغذائي، حيث حصلت نقاطًا تتراوح بين 6.99 و7.07، وتليها في الترتيب بلدان المغرب العربي ومصر والأردن (من 6.39 إلى 5.76)، وتقع تحت متوسط السلّم الذي هو 5 عدد من البلدان العربية ذات الدخل المحدود وتعيش عدم استقرار سياسي ونزاعات وحروب مثل العراق وسوريا واليمن والسودان والصومال.

التجارة باعتبارها الحلّ الأمثال للأمن الغذائي العربي

هناك عدة مقاربات واستراتيجيات تتبعها حاليًا البلدان العربية من أجل تحقيق الأمن الغذائي والتقليل من الاعتماد على الواردات وزيادة الإنتاجية الزراعية، وهي مقاربات تعتمد على إدخال التكنولوجيا وتقديم الدعم للمزارعين وبناء القدرات وتعزيز قدرات الصمود لصغار المنتجين وتأهيل البنى التحتية والدعم الغذائي للأُسر الفقيرة وتطوير أنظمة التخزين وغيرها من المقاربات.

تبادل العجز بالفائض يحقق التكامل الزراعي في المنطقة

تُعتبر التجارة هي أفضل مقاربة لضمان الأمن الغذائي، خاصّة التجارة العربية البنيية التي ستجعل كل بلد يركّز على ميزته التنافسية وينتج السلع الزراعية التي لديه فيها تفوّق نسبي من حيث تكلفة الإنتاج المنخفضة، ويستورد السلع التي ليس لديه فيها ميزة وتكون تكلفة إنتاجها مرتفعة.

التجارة هي نوعٌ من التكنولوجيا التي تجعلنا نحصل على السلع بأقل تكلفة. ولقد أوصى تقرير الأمم المتحدة الصادر سنة 2023 بخصوص الأمن الغذائي في المنطقة العربية بضرورة اتخاذ التجارة مقاربة لتوفير الغذاء بشكل كافٍ وجيّد ومستدام، حيث تساعد التجارة بسد العجز في بعض الأسواق العربية وتسويق الفائض في أسواق أخرى، وتبادل العجز بالفائض يحقق التكامل الزراعي في المنطقة.

تشكّل الأسماك والخضر والفواكه والألبان والمنتجات الحيوانية أهم السلع الغذائية التي يتمتع الوطن العربي بمزايا نسبية في إنتاجها (71 بالمئة من الصادرات الزراعية العربية)، بينما يعتمد على الاستيراد في الحصول على سلع غذائية أخرى هي الحبوب والسكر والزيوت النباتية من بلدان أخرى بنسبة 78.4 بالمئة.

ويتضّح من انخفاض الواردات الزراعية حسب معطيات 2022 أنّ بعض السلع في البلدان العربية لديها ميزة نسبية في تكلفة إنتاجها، وهي البطاطس والباقوليات والخضر والفواكه واللحوم والألبان والأسماك.

تتصدّر الألبان ومنتجاتها قائمة السلع التي يتبادلها العرب في التجارة بينهم بنسبة 33.08 بالمئة، ثم الفواكه (14.83 بالمئة) والزيوت النباتية (5.1 بالمئة) والخضر (5.7 بالمئة) والحيوانات والأسماك (3.4 و3.2 بالمئة).

من خلال المعطيات أعلاه، يظهر أنّ التكامل الاقتصادي الزراعي من خلال التجارة البينية يبقى أفضل مقاربة لتأمين الغداء في المنطقة بالاعتماد على الميزة النسبية التنافسية، خاصّة أنّ إنتاج الحبوب والزيوت والسكر، يبقى من أهم السلع المستوردة من خارج العالم العربي.

يجب إعادة تصميم السياسات التجارية العربية لتقدّم تسهيلات للتجارة الزراعية من خلال تفكيك القيود الجمركية وغير الجمركية

الاعتماد على الواردات الزراعية من خارج العالم العربي قد يكون تكنولوجيًا للحصول على هذه السلع بأقلّ تكلفة، لكن استمرار النزاعات والحروب التي بدأت تتزايد في العالم وفي منطقتنا تشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الغذائي العربي، وهذا يدعونا إلى التركيز أكثر على التكامل الزراعي بين البلدان العربية، حتى يتحقّق الأمان الغذائي بشكل مستدام.

في صلب هذا الاتجاه، يجب إعادة تصميم السياسات التجارية العربية حتى تقدّم تسهيلات للتجارة الزراعية من خلال تفكيك القيود الجمركية وغير الجمركية، وتوسيع اتفاقيات التجارة الحرّة العربية كما بَيّنت ذلك العديد من المقالات في "عروبة 22" التي تدعو إلى التكامل التجاري العربي.

لن يتحقّق الأمن الغذائي العربي كلية إلّا إذا تحقّق الأمن العربي المستدام في المنطقة أولًا وقبل كل شيء، والأمن القومي العربي لا يتحقّق كاملًا دون أن يتحقق السلام في جميع بلدان العالم، ونزعم أنّ التجارة والسلام، هما أفضل السبُل لتأمين الغذاء للعالم العربي ولجميع البلدان.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن