وأُسّس على هذه الاتهامات إطلاق أوصاف الحيوانات البشرية والحشرات وغيرها من الأوصاف التي تدين من أطلقوها على المقاومين بل على شعب فلسطين بأكمله، وعندما أدت العمليات العسكرية الإسرائيلية الانتقامية إلى ما أدت إليه من دمار هائل وشهداء بالآلاف تكرّرت الاتهامات للمقاومة ولكن هذه المرّة من داخلنا وليس من العدو.
وركّزت هذه الاتهامات على وصف ما قامت به المقاومة في ٧ أكتوبر/تشرين الأول بعدم الرشادة.. ألم يكونوا على وعي بفارق القوة بينهم وبين خصومهم الإسرائيليين ونموذج السلوك الإسرائيلي الانتقامي النمطي من هذه العمليات؟، وبالتالي كان عليهم توقّع ما حدث من قتل وتشريد ودمار، وكانت مسؤوليتهم تجاه شعبهم تحتم عليهم تجنيبه المصير الذي نشهده الآن.
دفعت الشعوب دائمًا أثمانًا أكثر من باهظة من أجل نيل استقلالها لكنها كانت دائمًا تصل إليه
وفي كل هذه الاتهامات، سواء من العدو الإسرائيلي أو من عناصر فلسطينية وعربية بعينها، لم يتوقف أحد عند السبب الأصيل لما جرى ويجري وهو الحالة الاستعمارية الإسرائيلية لما تبقى من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقطاع، فمنذ القبول العربي الجماعي الرسمي لدولة إسرائيل في قمّة فاس ١٩٨٢، وبالذات بعد اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل بموجب اتفاقية أوسلو ١٩٩٣، أصبح النضال ضد الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين محصورًا في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزّة.
وللاستعمار كما هو معلوم ممارساته الاستغلالية للشعوب المستعمَرة المصحوبة بكافة أشكال العنف المباشر وغير المباشر، ناهيك بالاحتقار ومحاولات الإذلال التي ينطوي عليها سلوك السلطات الاستعمارية تجاه الشعوب الخاضعة لسيطرتها، وقد ولّدت هذه الأوضاع تاريخيًا لدى هذه الشعوب نزوعًا أكيدًا لمقاومة الاستعمار ظهر سريعًا في بعض الحالات، وتأخّر حينًا في حالات أخرى، لكن الظاهرة الاستعمارية لم تشهد استثناءً واحدًا في هذا الصدد، بمعنى أنّ كافة الشعوب التي خضعت للاستعمار عرفت ظاهرة مقاومة الاحتلال كرد فعل لممارساته، ورغم ضعف بدايات الحركات المقاومة وعنف الاستعمار المفرط في مواجهتها فإنّ منحنى قوّتها تاريخيًا كان دائمًا في صعود رغم النكسات التي كانت تؤدي إلى توقف الفعل المقاوم حينًا ليعود مجددًا أقوى وأكثر خبرة، مستندًا إلى شعبه كحاضنة اجتماعية وسياسية، وإلى الإيمان بقضية التحرير، وإلى الأساليب غير التقليدية في القتال، وإلى ما يتوفر من دعم خارجي من القوى صاحبة المصلحة في هزيمة المستعمر.
وفي غمار أعمال مقاومة الاحتلال دفعت الشعوب دائمًا أثمانًا أكثر من باهظة من أجل نيل استقلالها، لكنها كانت دائمًا تصل إليه، فيما يرقى إلى مرتبة قانون علمي للتحرّر.
ولذلك فإنّ أفعال الشعب الفلسطيني كلّها منذ بداية المشروع الصهيوني وحتى الآن، وبصفة خاصة منذ استكمال إسرائيل احتلال أراضي فلسطين التاريخية بعد العدوان الإسرائيلي في ١٩٦٧، ليست سوى تكرار نمطي مع خلاف في التفاصيل لظاهرة مقاومة الشعوب لمستعمريها التي أسبغ القانون الدولي عليها شرعية بعيدًا عن تكييفها بأنها أعمال إرهابية، ومن ثم كشف عن المستعمر غطاء الدفاع عن النفس.
أما سلسلة الأكاذيب التي رُوّجت عن تصرفات المقاتلين الفلسطينيين في عملية "طوفان الأقصى" فهي حتى الآن تفتقر إلى أدلة، خاصة وأنّ المستعمر الإسرائيلي قد عوّدنا على الكذب، وقد رشحت من مصادر مختلفة قرائن مختلفة تفند هذه الأكاذيب، بل وتنسب للجانب الإسرائيلي المسؤولية عن بعض أعمال القتل التي جرت على سبيل الخطأ، وقد برّر الإسرائيليون أعمالهم الانتقامية الوحشية بفظاعة ما ارتكبته فصائل المقاومة من أعمال في مستوطنات غلاف غزّة، والواقع أنه بفرض أنّ ثمة عنفًا مفرطًا وقع من قِبَل المقاومة في ٧ أكتوبر/تشرين الأول فلا بد أن يكون واضحًا أنه ليس سوى رد فعل لفظائع السياسة الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني منذ نشأة دولة إسرائيل وحتى الآن من قتل وتشريد وهدم للبيوت واغتصاب للأراضي وممارسات مستمرة لمحاولة إذلال الفلسطينيين، ولا يحدث ذلك فقط كما تدعي إسرائيل لمواجهة عنف المقاومة، وإنما يحدث لأنّ هذه طبائع الاستعمار التي يكشفها التاريخ بكل جلاء.
ولن ينسى التاريخ أبدًا المذبحة التي نفّذتها السلطات الاستعمارية الفرنسية بحق الشعب الجزائري في مايو/أيار ١٩٤٥ التي راح ضحيّتها أكثر من ٤٥ ألف جزائري كانت كل جريرتهم أنهم خرجوا في مظاهرات سلمية تطالب بالاستقلال.
الرشادة لا تجدي مع الاحتلال ولقد خبرها الفلسطينيون لأكثر من ثلاثين عامًا منذ توقيع اتفاقية أوسلو فماذا كانت النتيجة؟
وعندما كنتُ أهمّ بكتابة هذه المقالة تواترت الأنباء عن قيام السلطات الاستعمارية الإسرائيلية بهدم منزل الباحث المقدسي فخري أبو دياب الذي بناه منذ ٣٨ سنة، وأبو دياب هو الناطق باسم لجنة الدفاع عن عقارات وأراضي سلوان، وقد برز أبو دياب لسنوات طويلة مدافعًا عن أصحاب المنازل الفلسطينية المهددة بالهدم في بلدة سلوان بالقدس الشرقية، ولم يكن هدم المنزل سوى عمل في إطار سياسة واضحة لهدم عشرات من منازل المقدسيين الفلسطينيين بحجة عدم الترخيص ببنائها في إطار مخطط تهويد المدينة، ووجدتُ هذا الخبر كاشفًا للأمر كلّه، فإسرائيل تتذرع في جرائمها في غزّة بأعمال المقاومة الفلسطينية، وبالذات ما جرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول، لكنها كأي قوة استعمارية تعامل الشعب الفلسطيني كلّه وفقًا للسياسات النمطية للقوى الاستعمارية، ففخري أبو دياب مناضل مدني فلسطيني يدافع عن أبسط حقوقه وحقوق أبناء شعبه، وهو لم ينتسب يومًا للمقاومة المسلّحة ناهيك بـ"حماس"، غير أنه كفلسطيني ضحية لسياسات الكيان الصهيوني الاستعماري.
على من يتهمون المقاومة بالإرهاب أن يتذكروا أنّ مقاومة الاحتلال حق مشروع لأن سياساته تجاه الشعوب الخاضعة له لا تترك مجالًا لخيار آخر، وعلى من يتهمون المقاومة بعدم الرشادة أن يفهموا أنّ ما يُسمّى بالرشادة من وجهة نظرهم لا تجدي مع الاحتلال، ولقد خبر الفلسطينيون الرشادة لأكثر من ثلاثين عامًا حتى الآن منذ توقيع اتفاقية أوسلو، فماذا كانت النتيجة؟.
(خاص "عروبة 22")