بصمات

هل انتهى دور المثقف؟ (1/2)

يعود ظهور النهضويين العرب إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، بفعل المشاريع الإصلاحية التي أطلقها الحكًام وخصوصًا في مصر مع محمد علي باشا. وعلى هذا النحو فقد كان هذا التنويري عاملًا في المؤسسات التي أنشأها العاهل، من مدارس وإدارات متخصصة تُعنى بالشؤون المالية والتجارية والعسكرية. وفي منتصف القرن التاسع عشر، تكوّنت مجموعة من الإداريين ذوي الخبرة والعلم الأوروبيين في كل من مصر وفي استامبول أيضًا (في عصر التنظيمات) وفي الفترة نفسها ظهر التنويري في لبنان غير المرتبط بإدارة الدولة، وليس صنيعتها وقد تكّون في كنف المدارس الإرسالية وانفتح على الثقافة الحديثة وأطلق قيمًا جديدة مثل الوطن والحرية. واعتمد المدرسة سبيلًا إلى نشر العلم الحديث، والصحافة إلى إطلاق الأفكار الجديدة.

هل انتهى دور المثقف؟ (1/2)

وعلى هذا النحو فإنّ التجربة العربية في القرن التاسع عشر شهدت صنفين من التنويريين، أحدهما نشأ في كنف الدولة ومؤسساتها، والآخر كان أقل ارتباطًا بمشروع الحاكم. ومنذ سبعينات القرن التاسع عشر، انتقل العديد من المتعلّمين من لبنان إلى مصر حيث مارسوا الصحافة والنشر، وكان لهم دور في بروز المثقف الكاتب الصحافي والذي تميّز بنشر الأفكار الحديثة وأساليب الكتابة غير التقليدية مثل المقالة والقصة التي تسمح الصحيفة بنشرها ونقلها إلى القرّاء.

ومثل النهضة الأوروبية عاد هؤلاء التنويريون المتعلّمون إلى التراث ما قبل الإسلام، إلى الشعر الجاهلي، واعتمدوا اللغة العربية الفصحى التي نقلوا من خلالها المصطلحات الحديثة مثل الوطن والحرية والمساواة والاشتراكية وغيرها. وفي مطلع القرن العشرين، نُقلت إلى العربية أعمال فكرية وأدبية عن الفرنسية والإنكليزية مثل روسو وسبنسر وداريون ولوبون وسيديو وغيرهم، وعُرفت المذاهب المدرسية مثل التطورية والليبرالية والاشتراكية.

كان أغلب مفكّري وكتّاب النصف الأول من القرن العشرين ليبراليين يدعون إلى تبني النظام الديمقراطي وتداول السلطة

كانت جهود هؤلاء المثقفين التنويريين الذين اطلعوا على الأفكار الأوروبية وتأثّروا بها ذات طابع تربوي فقد أخذوا على عاتقهم دور نشر الأفكار الحديثة المتعلقة بالحياة العامة والخاصة وتعليم الإناث، ونشر قيم الحرية والعدالة والوطن والعائلة. وقد توسلوا في سبيل ذلك المقالة الصحافية كما هو الحال بالنسبة لأحمد لطفي السيد الذي جمعت مقالاته في جريدة الجريدة في المنتخبات التي تطرق فيها إلى جملة هذه الموضوعات. كان أحمد لطفي السيد الذي اعتُبر "أستاذ الجيل"، كان أيضًا مترجمًا فقد ترجم أعمالًا لفلاسفة اليونان الكثر، وانطلاقًا من أنّ واجب المثقف أن ينشر قيم السياسة الداعية إلى الديمقراطية والليبرالية السياسية، اعتبر أنّ أحد أدوار المثقف هي صياغة النظام السياسي الأمثل، علمًا بأنّ الفترة التي صاغ فيها أفكاره ومقالاته كانت الفترة التي انتشر فيها المذهب الليبرالي.

وقد كان أغلب مفكّري وكتّاب النصف الأول من القرن العشرين ليبراليين يدعون إلى الحرية والوطنية وتعليم المرأة وتبني النظام الديمقراطي وتداول السلطة. وهكذا كان سلامة موسى وعباس العقاد وطه حسين ومحمد حسين هيكل وغيرهم. فكانت مؤلفاتهم تهدف إلى نقل الأفكار الحديثة وقيم الحرية والمساواة إلى قرّائهم.

ليس هذا فحسب، فقد اعتقد مثقفو النصف الأول من القرن العشرين أنّ دورهم يكون أيضًا في صياغة الهوية الوطنية متأثرين بالاكتشافات الأثرية، أو بإعادة نشر التراث الأدبي العربي، أو بالنظريات الحديثة حول الأمّة والوطن.

لقد امتلك المثقف نفوذًا معنويًا كبيرًا، وكانت أداته، وسلاحه، اللغة التي يمتلكها ومن خلالها يبثّ وينشر أفكاره، وكان للمفردات قوة تأثير في القرّاء الذين هم قدوة لسائر المواطنين، فكانت كلمات مثل الوطن والحرية والاستقلال تملك قوة التأثير في المشاعر العامة.

لقد آمن هؤلاء المثقفون الليبراليون أنّ التعليم والتربية يؤديان إلى رقيّ المجتمع وتقدّم الأمّة، وأنّ تعليم المرأة يصلح الحياة الزوجية ويحسّن تربية الأولاد، وأنّ رفع شأن الفلاح يكون عبر التعليم.

استخدمت كلمة ثقافة باللغة العربية قبل استخدام كلمة مثقف. ويعود ذلك إلى عام 1930، حين أسّس سلامة موسى المجمع العربي للثقافة العلمية وأصدر المجلة الجديدة لنشر الأفكار والعلوم الحديثة التي ظهرت في أوروبا، وعلى هذا النحو فإنّ كلمة ثقافة قد ارتبطت بالثقافة الحديثة. وفي عام 1937، أصدر طه حسين كتابه الشهير: مستقبل الثقافة في مصر، ويشتمل هذا الكتاب الذي يتناول فيه هوية مصر التاريخية والثقافية وارتباطها بالمتوسط أي بالثقافة اليونانية حين كان الفكر اليوناني مهيمنًا في مصر التي شهدت مدينة الإسكندرية مدرسة فلسفية يونانية. إلا أنّ كلًا من سلامة موسى وطه حسين يعطيان لكلمة ثقافة بُعدها التربوي ونشر القيم الحديثة عبر التعليم.

ليس هذا فقط، بل إنّ تقدّم أوروبا وانتشار المذهب الليبرالي في أرجاء العالم، قد أدى إلى التفكير بأنّ الوقت قد حان لإصلاح التفكير الإسلامي وإعادة بنائه وفق مبادئ الليبرالية. كان الامام محمد عبده قد رأى بأن ليس في الإسلام سلطة على المسلم في إيمانه، وأنّ حرية التفكير هي دعوة الإسلام الأصلية، واعتماد العقل في التفسير. وعلى هذا النحو فإنّ عباس محمود العقاد ومحمد حسين هيكل وطه حسين قد عادوا، بعد أن عرّفوا قرّاءهم بالأفكار الأوروبية السياسية والعلمية، إلى كتابة تاريخ الإسلام المبكر من خلال شخصياته وإضفاء الطابع العقلاني على سلوكهم وحياتهم وممارسة الحكم.

يُمثّل كتاب طه حسين مستقبل الثقافة في مصر، ذروة المؤلفات ذات الطابع الليبرالي، ففي هذا الكتاب يستخدم منهجه النقدي وميوله الديمقراطية في تعميم التعليم (بالرغم من أنه يولي الدولة الاضطلاع بالمشروع التربوي) ويدافع عن انتماء مصر إلى ثقافة المتوسط، أي إلى الثقافة اليونانية- الأوروبية، ومصر ليست من الشرق، وإن انتمت إلى التراث اللغوي العربي. بل أنّ لمصر دورًا تربويًا وتعليميًا في البلاد العربية.

انطواء الثلاثينات طوى معه ريادة المثقف الليبرالي أمام صعود الداعية العقائدي

كان المثقفون المصريون حتى ثلاثينات القرن يملكون النفوذ المعنوي والاجتماعي والثقافي. ويقحمون أنفسهم في مسائل السياسة والحكم، ويعتقدون أنّ لهم دورًا في بلورة النظام السياسي والاجتماعي، وكانوا يحظون بتقدير القرّاء والعامة الذين يؤمنون بأنّ هؤلاء الكتّاب والمفكرين ينشرون القيم التي ينبغي أن يأخذ بها عموم المواطنين.

إلا أنّ انطواء الثلاثينات قد طوى معه ريادة المثقف الليبرالي أمام صعود الداعية العقائدي. وأنّ المساحة التعبيرية التي كان يحتلها المثقف الليبرالي كانت آخذة بالضمور أمام بروز شخصيات جديدة طرأت على المشهد الثقافي- السياسي.

فمع بداية العشرينات من القرن العشرين، وبعد ثورة أكتوبر 1917 الروسية، ظهرت مجموعات تدعو إلى الفكر الاشتراكي، وتؤمن بالماركسية وتنتمي إلى الكومنترن أو الشيوعية الدولية أو الأممية الثالثة حسب تعبيرات تلك المرحلة. وكانت مرجعية هؤلاء (الأمميين) الفكر الماركسي، وهو فكر غربي (ينهض على الفلسفة الألمانية والتاريخ الثوري الفرنسي والاقتصاد الإنكليزي). لكنّ هؤلاء الشيوعيين الاشتراكيين كانوا معادين لليبرالية الغربية وللأنظمة الرأسمالية، وعلى هذا النحو انطوى فكر هؤلاء على مفارقة أنهم يؤمنون بفكر غربي معادي للغرب.

أما الاتجاه الثاني الذي برز في نهاية عشرينات القرن العشرين فهو الاتجاه الإسلامي المتمثّل بجماعة "الاخوان المسلمين" وهؤلاء يدعون إلى العودة إلى قيم الإسلام، وكان بروز الجماعة نتيجة ردود فعل على انحسار دور الدين في الحياة العامة، وبعد إلغاء الخلافة في استامبول.. وانتشار ثقافة التغريب والأفكار التي تتنافى مع الإيمان.

صعود التيارات الأيديولوجية كان يعبّر عن فئات اجتماعية واسعة وجدت أنّ السياسات الليبرالية لم تعد بالفائدة إلا على الملّاكين

كما برز اتجاه ثالث متأثر بالفاشية الإيطالية (بعد فوز موسوليني بمنصب رئيس وزراء إيطاليا وسيطرته على الدولة وإعلان إيطاليا جمهورية اشتراكية بقيادة الحزب الوطني الفاشي). وقد عبّر عن هذا الاتجاه مجموعة من الشباب على رأسهم أحمد حسين مؤسس جماعة مصر الفتاة التي أعلنت حزبًا عام 1933.

كانت هذه التيارات الثلاثة بالرغم من تناحرها، تلتقي على مبدأ مشترك وهو مناهضة الليبرالية فكرًا وسياسةً واقتصادًا. كما أنها تشترك في مناهضة الغرب الاستعماري، إلا أنّ انتشار هذه التيارات لم يكن متكافئًا.

وفي جميع الأحوال، فإنّ صعود هذه التيارات الأيديولوجية الثلاثة كان يعبّر عن فئات اجتماعية واسعة وجدت أنّ السياسات الليبرالية الاقتصادية لم تعد بالفائدة إلا على فئة محدودة من الملّاكين المسيطرين على الحياة السياسية والاقتصادية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن