قضايا العرب

"العدل الدولية".. هل يُمكن أن تُحاسِب إسرائيل على إجرامها؟

القاهرة - محمد بصل

المشاركة

تشارك معظم الدول العربية وعدد من الدول الإسلامية، بمرافعات في جلسات الاستماع المتتالية التي تعقدها محكمة العدل الدولية حتى يوم الاثنين المقبل، لنظر طلب الفتوى المقدّم من الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الآثار القانونية الناشئة عن سياسات إسرائيل وممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلّة بما فيها القدس الشرقية، وهو الطلب الذي تلقته المحكمة في يناير/كانون الثاني 2023 وانتهت إجراءاته التمهيدية في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بإثبات سبع وخمسين دولة ومنظمات إقليمية كجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي مشاركتها في الطلب بتقديم مذكرات قانونية وتسجيل رغبتها في إلقاء إفادات شفهية.

البحرين، اليمن، المغرب، موريتانيا، الصومال، وجيبوتي.. هي فقط الدول العربية التي لا تشارك في جلسات الاستماع، بينما تقدمت باقي الدول الأعضاء بالجامعة العربية بمذكرات ومرافعات، ركزت جميعها على سرد الانتهاكات الإسرائيلية لقواعد القانون الدولي والمواثيق الأممية وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة على مدار 75 عامًا، منذ تأسيس إسرائيل وحتى عدوانها الحالي على قطاع غزّة وارتكابها صورًا مختلفة من الجرائم ضد الإنسانية والحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، وتجريده من حق تقرير مصيره، وتغيير التركيبة الجغرافية والسكانية.

تحيط بهذه القضية وتدخّل الدول العربية والأجنبية فيها، عدد من المعلومات المغلوطة التي انتشرت عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، بسبب تزامن نظرها مع قضية الإبادة الجماعية المرفوعة من جنوب أفريقيا والتي صدر فيها قرار التدابير المؤقتة ضد إسرائيل الشهر الماضي بسبب العدوان على غزّة.

مسارات مختلطة

أول أشكال الخلط، تصوّر أنّ القضية الحالية يمكن أن تتطور إلى قرار يلزم الكيان الصهيوني بتغيير سياساته، فالحقيقة أنّ الفتوى التي طلبتها الجمعية العامة للأمم المتحدة ليست ملزمة على الإطلاق، بل تقل أهمية عن الحكم الموضوعي المرجو صدوره في قضية الإبادة الجماعية وقرار التدابير المؤقتة الأخير، ذلك أنّ ما ستصدره المحكمة في قضية الإبادة الجماعية يجب أن يعرضه الأمين العام للأمم المتحدة على الهيئات المختلفة للمنظمة ويمكن أن يتطوّر –نظريًا- إلى قرار من مجلس الأمن، لكن أقصى ما يمكن تحقيقه بـ"الفتوى" أن تصدر الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا "غير ملزم" أيضًا بضرورة التزام إسرائيل بضمان حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني والكف عن ممارساتها الاستيطانية والتمييزية بحقه.

وبالتالي فمن الناحية القانونية البحتة يصطدم مسار الفتوى بسياج منيع من النصوص في ميثاق الأمم المتحدة تمنح حقًا مطلقًا للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وعلى رأسها الولايات المتحدة لاستخدام حق النقض (الفيتو) لعرقلة أي قرار من الجمعية العامة أو مشروع قرار وافقت عليه أغلبية أعضاء المجلس، فلا يمكن تطوير الفتوى إلى فعل رسمي، واقعي أو حتى نظري، يضمن تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة أو إعادة الحقوق إلى الشعب الفلسطيني.

والمثال الأقرب على ذلك، الفتوى التي أصدرتها محكمة العدل الدولية عام 2004 بعدم مشروعية تشييد إسرائيل للجدار العازل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي صدرت بناءً على طلب من الجمعية العامة أيضًا، فأسفرت عن قرار منها بـ"بطلان الجدار وضرورة إزالته ووقف أعماله وجبر الأضرار المترتبة عليه"، لكن الأمر لم يُطوّر أبدًا إلى قرار من مجلس الأمن، ولم يتم تعديل مسار الجدار أو وقف إنشاءاته في بعض المناطق إلا بقرارات من القضاء المحلي الإسرائيلي أو بعد تصاعد المقاومة الفلسطينية.

لكن هذا المسار ليس عبثيًا، كما يذهب البعض، فشأنه شأن كل المسارات القائمة على استغلال الزخم داخل الجمعية العامة وتقارير المنظمات الدولية وعناصر القانون الدولي الإنساني، يقوم على العمل التراكمي وجمع النقاط، لا ضربة قاضية مأمولة، وإنما الهدف تكثيف الضغط على الدول الكبرى داخل الجمعية العامة وأعضاء مجلس الأمن لا سيما الدائمين، واستمالة المنظمات الإقليمية والقارية لاتخاذ قرارات تزيد من عزلة الكيان المحتل، بالإضافة إلى البحث عن فرص لاستغلال الفتاوى والقرارات الدولية في المنظومات القضائية الغربية أملًا في استصدار أحكام بإدانة القادة الإسرائيليين وداعميهم من الأمريكيين والأوروبيين، أو فرض قيود على تصدير الأسلحة والدعم المالي.

مرافعات مصر والعرب في سياق تاريخي

وثاني أوجه الخلط، تصوّر البعض أنّ هذا الحشد العربي هو الأول من نوعه ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، إلى حد وصف بعض المرافعات بأنها "تاريخية" أو أنّ المرافعة المصرية هي "أول مواجهة قانونية بين القاهرة وإسرائيل منذ أزمة طابا"، وهي عبارات غير دقيقة.

ففي قضية الجدار العازل عام 2004 شارك من العالم العربي كل من مصر والسعودية والأردن والكويت ولبنان وسوريا واليمن والمغرب والسودان، بالإضافة إلى الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، علمًا بأنّ إسرائيل تدخلت في تلك القضية بنفسها بينما تتغيّب عن القضية الحالية ازدراءً للمحكمة والجمعية العامة.

وأودعت مصر في 2004 مذكّرة من 42 صفحة ممهورة بتوقيع وزير الخارجية الراحل أحمد ماهر، أكدت في مجملها أنّ إنشاء الجدار العازل ينتهك مبادئ القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة وقرارات مجلس الأمن.

وتحظى القضية الحالية بمشاركة عربية أكبر لعدة أسباب أهمها أنّ المحكمة أفسحت فترة زمنية أوسع لتقديم المذكرات نظرًا لعدم الارتباط بحدث طارئ على عكس قضية الجدار العازل أو قضية غزّة، كما أنّ فتوى 2004 زادت من ثقة الدول العربية والشعوب المتضامنة مع القضية الفلسطينية في إمكانية تحقيق النجاح بالقضاء الدولي وباتت تشجع المزيد من الدول الصغيرة على المشاركة بإفادات مكتوبة أو شفهية، فضلًا عن أنّ طبيعة القضية الحالية تشجع على إسهام أوسع من زوايا قانونية ثرية لا حصر لها.

وهنا يجب تفنيد ثالث أوجه الخلط، فلا توجد أي علاقة بين العدوان الحالي على غزّة واشتراك أي دولة في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني في هذه القضية، حيث انتهت فترة تسجيل المشاركة قبل شهرين ونصف الشهر من "طوفان الأقصى"، مما يدل على أنّ الدول المشاركة وجدت في هذه القضية فرصة مؤاتية لإدانة إسرائيل على مجمل ممارساتها لأكثر من خمسة وسبعين عامًا، وبغض النظر عن حرب غزّة والتوترات الأخيرة حول رفح وما يردده قادة الكيان من اجتياح محتمل للمنطقة الحدودية بين مصر والقطاع.

ومثّلت المرافعة المصرية نموذجًا جيدًا للمزاوجة بين السياق التاريخي للقضية ومستجداتها بالعدوان الحالي، وكذلك بين الجوانب القانونية المتعلقة باختصاص المحكمة وضرورة تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة على الشعب الفلسطيني وتمتعه بحق تقرير مصيره والجوانب السياسية التي تضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته التي يفشل في الوفاء بها في ظل انسداد الأفق السياسي وابتعاد "حلّ الدولتين" عن المنال وتمادي إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة في جرائمها.

اللغة القانونية أوضح من الدبلوماسية أحيانًا

ويعضد ذلك أنّ محكمة العدل الدولية ذاتها سبق وأكدت انطباق الاتفاقيات سالفة الذكر وقواعد لاهاي الخاصة بقانون وأعراف الحرب، والمعاهدات الخاصة بالقانون الدولي لحقوق الإنسان، وخاصة الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، وقبل ذلك كلّه مبادئ القانون الدولي العرفي على الشعب الفلسطيني، وهي المبادئ نفسها التي انطلقت منها المحكمة في قرار التدابير المؤقتة بشأن غزّة فأكدت تمتّع الشعب الفلسطيني، كمجموعة بشرية مستقلة ومميّزة، بالحماية القانونية الدولية.

إنّ هذه المسألة ألهمت المرافعة الرسمية الفلسطينية، وبعض المرافعات الأخرى ومنها المصرية، التركيز على خطورة السياسات الإسرائيلية الرامية إلى تغيير التركيبة السكانية في القدس والضفة الغربية وغزّة وفي المناطق التي تزحف عليها المستوطنات، ليس بتغذية الاستيطان فحسب بل أيضًا بقرارات المصادرة والعدوان الرامي إلى القتل والإيذاء البدني والمعنوي انتهاءً بالتهجير القسري والنزوح الجماعي، وهذه نقطة تلاقٍ مهمة على مستوى الأدلة والقرائن بين هذه القضية وقضية الإبادة الجماعية، تأكيدًا على انتهاج أنماط مختلفة من الإبادة الجماعية.

وكان لافتًا أنّ المرافعة المصرية وبعض المرافعات العربية الأخرى اتسمت بارتفاع سقف النقد للممارسات الإسرائيلية والمنهج الغربي في التعامل مع القضية الفلسطينية، قياسًا بالخطاب الدبلوماسي المعتاد.

وفي المقابل فضحت المرافعة الأمريكية موقف واشنطن التي تتمترس خلفه إسرائيل بعبارات تجاوزت في فظاظتها الخطاب الدبلوماسي التقليدي، فبات واضحًا أمام العالم أنّ الراعي الأول لعملية السلام المزعومة يرى الوقت غير ملائم لإقامة دولة فلسطينية مستقلة طالما لم تتمتع إسرائيل بأمنها التام، الذي يعني القضاء على أي قدرات عسكرية أو أمنية للشعب الفلسطيني.

وهكذا ساهمت اللغة القانونية، التي تُتهم في كثير من الأحيان بأنها نخبوية ومعقدة، في أن تظهر الحقيقة ناصعة للعيان بعيدًا عن ألاعيب الدبلوماسية والجولات المكوكية والمسكّنات والتبشير بصفقات ينطبق عليها المثل العربي "ضحك على الذقون"، فأمريكا لن تقبل بميلاد دولة فلسطينية قابلة للحياة، مهما روّج قادتها من تصريحات تخديرية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن