يترقب العالم، وبخاصة منطقة الشرق الأوسط التي تمر منذ عقود بمرحلة حرجة زادت من حراجتها حرب غزّة بين إسرائيل وحركة "حماس" والدور الحاسم والحيوي للولايات المتحدة فيها وامتداداتها الإقليمية والدولية خصوصًا على مستوى العلاقات الأميركية الإيرانية، على وقع التوتر غير المسبوق مع حلفاء وميليشيات إيران في المنطقة وفي أكثر من دولة عربية، أوضاع المنطقة في الأشهر الفاصلة عن نتائج الإنتخابات الأميركية، سلمًا أو حربًا أو توترات متقطعة، مرتبطة بمآلات هذه الحرب وذيولها.
عملية "طوفان الأقصى" تتجاوز موضوع فلسطين لتصل إلى كباش بهدف الغلبة في ميزان القوة في المنطقة
بات بديهيًا القول إنّ حرب غزّة لم تعد مقتصرة على النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين بعامة وحركة "حماس" بخاصة، بل تعدتها إلى حرب بين محورين في الإقليم: المحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة ويضم دول الاعتدال العربي من الدول الخليجية وبعض دول المغرب العربي والأردن ومصر، والمحور الإيراني وميليشياته في لبنان وسوريا والعراق واليمن. هذه الميليشيات منخرطة بدرجة أو بأخرى في حرب غزّة عبر مساندة "حماس" كما هي حال "حزب الله" في لبنان، أو عبر مناكفات دورية متنقلة بينها وبين الأميركيين من العراق أو سوريا أو اليمن حيث حركة "أنصار الله" الحوثية تستغل موقعها في البحر الأحمر لعرقلة التجارة البحرية بقرصنة للسفن الأميركية أو تلك المتجهة الى إسرائيل.
هذا الواقع المتشعب حوّل الحرب بين إسرائيل و"حماس" إلى نزاع إقليمي وعزّز الإنطباع الذي يعتبر أنّ عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر تتجاوز موضوع فلسطين والفلسطينيين لتصل إلى كباش بهدف الغلبة في ميزان القوة في المنطقة ودورها وتوجهاتها في السياسة الدولية ومستقبل الصراعات فيها، وعلى رأسها الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي والعربي-الإسرائيلي وعملية السلام، فيما يخدم أهداف إيران وسياستها في المنطقة. في السياق نفسه، ينبغي ألا نغيّب ما يتردد عن العلاقات الإيرانية-الروسية المتنامية وعلاقات موسكو المستجدة مع حلفاء إيران وميليشاتها بعد حرب أوكرانيا، والتي بلغت حد التدريب والتزويد بالتكنولوجيا والإستخبارات. كل ذلك يجعل الإنتصار أو الهزيمة في غزّة أبعد من انتصار "حماس" أو هزيمتها، وهذا ما قد يفسر التغاضي الأميركي والغربي بعامة عن الجرائم والفظائع التي ترتكبها إسرائيل. ولعل هذه النقطة تحديدًا مكّنت غلاة السياسة المتشددين في إسرائيل من استخدام هذه القوة المفرطة لأهداف ومرامي توسعية وتهجيرية.
العمليات الحربية سوف تتوقف، ومن المرجح ألا تسمح نتائج هذه الحرب بدور مباشر لـ"حماس" في المعادلة السياسية والأمنية في غزّة بعد توقفها. ومن المرجح أيضًا أن تشهد المنطقة قبل الإنتخابات الأميركية حراكًا ديبلوماسيًا متعدد الأوجه غير مسبوق، يتجاوز وقف الحرب في غزّة ومستقبلها وإعادة إعمارها إلى خطة للسلام الدائم في المنطقة.
هل تنجح واشنطن وشركاؤها في خلال الأشهر الثمانية المقبلة، وهي في خضم الحملات الانتخابية، في مواجهة ما سوف يتأتى بعد وقف الحرب مهما كانت النتائج التي ستسفر عنها وأبرزها عقبات ونزاعات إسرائيلية وإيرانية وفلسطينية كثيرة ومتشابكة؟.
إضافة إلى متى وكيف يخرج بنيامين نتنياهو تبرز مشكلة من سيخلفه في رئاسة الحكومة
بداية العقبات الفلسطيينة متعددة الأوجه، وأهمها الخلافات داخل "حماس" وداخل السلطة ومنظمة التحرير ومعارضيهما، وحتى بين المعارضين أنفسهم. مع تقدّم الحرب بين "حماس" وإسرائيل، ليس من المستغرب بعد أشهر من سقوط عشرات آلاف الضحايا والدمار الرهيب أن تظهر توترات جديدة وقديمة بين القادة العسكريين في غزّة وأولئك الذين في الخارج حول المخارج للحرب ومستقبل الحركة والقادة أنفسهم بعد نهاية القتال. أما الخلافات بين أهل السلطة الفلسطينية في رام الله فليست جديدة، تبدأ بتوزيع مسؤوليات العجز واتهامات السلطة بالفساد والاستئثار إلى الرؤى المختلفة لتجديد السلطة ودورها في "اليوم التالي" للحرب وعملية السلام. إلى جانب كل ذلك، هناك الجيل الجديد البعيد عن حركة "فتح" وتاريخها يغرد خارج سرب السلطة ومنظمة التحرير، ومن بينهم فتحاويون سابقون ومعارضون للحركة وقريبون منها، تتنازعهم جميعًا وقد تحرّكهم جهات مختلفة عربية وغير عربية. المحصلة، أنّ الساحة الفلسطينية مرشحة لتشهد معارك سياسية وربما عسكرية بين هذه الأطراف.
اما في إسرائيل، فسوف تبرز مجددًا المشاكل والاحتجاجات السابقة لحرب غزّة، مضافًا إليها المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الفشل في مواجهة عملية 7 أكتوبر وإدارة الحرب بعدها. عوامل تسعّر التجاذب السياسي الحاد في إسرائيل، والمرجح أن تعود حركة الاحتجاجات إلى وتيرتها السابقة وقد بدأت ملامحها تظهر. إضافة إلى متى وكيف يخرج بنيامين نتنياهو، تبرز مشكلة من سيخلفه في رئاسة الحكومة، وكيف سيواجه اليمين المتشدد التخلي عن السلطة، وهل سيبرز الشريك المقتنع بـ"حلّ الدولتين" وإعادة بعض من حقوق الفلسطينيين. إلى كل ذلك، يضيف تدهور سوء العلاقات مع واشنطن ومعظم الدول الغربية الصديقة لإسرائيل من تفاقم إضطراب الوضع الداخلي وآثاره على مواقف إسرائيل وأدائها وعلاقاتها مع الخارج وبخاصة تجاه مسار السلام والتسوية الشاملة.
إذا بقي اليمين على رأس السلطة في إسرائيل سيتكفل بتقديم الحجج المسهّلة للسياسة الإيرانية
إيران لن تستكين سواء لم تُهزم "حماس" وانتقلت إلى المقاومة من خارج غزّة، أو هُزمت وأصبحت خارج العملية السياسية. ستواصل طهران التصعيد عبر حلفائها بما يشبه الوتيرة الحالية وبدرجات متفاوتة حسب الحاجة. الهدف مزدوج، الأول أن تبقى لاعبًا رئيسًا في المنطقة وهي تسيطر على أربع عواصم عربية، والثاني مقاومة شرسة لعملية السلام إذا قُدّر لها أن تسلك طريق الحل الطويلة والوعرة. ستعتمد أيضًا أساليب قد تكون مبتكرة لتخريب مسار السلام وبخاصة توسّع تطبيع العلاقات الإسرائيلية-العربية. في السياق نفسه، قد لا تواجه إيران صعوبات كبيرة للعرقلة إذا بقي اليمين على رأس السلطة في إسرائيل، إذ سيتكفل بتقديم الحجج والذرائع المسهّلة للسياسة الإيرانية تجاه السلام العربي-الإسرائيلي.
ما من عصا سحرية جاهزة لتعبيد الطريق نحو سلام مستدام، وفي الوقت نفسه، الأشهر المقبلة لن تشهد الحرب الإقليمية التي تتجنّبها كل من طهران وواشنطن. فسحة الأمل الوحيدة أنّ لبنة "حلّ الدولتين" أصبحت قناعة لدى حلفاء إسرائيل. صحيح أنّ بايدن لن يتمكن خلال هذه السنة من إحداث اختراقات أو مفاجآت وسط الحملة الانتخابية الشرسة، وأي اختراقات ستكون مؤجلة إلى ما بعد نتائج الانتخابات إذا قُدّر له البقاء في السلطة. أما إذا وصل ترامب إلى الرئاسة، فمن شأنه تغيير المعادلات برمتها، وستكون كلّها على مقاييسه غير المتوقعة أكثر مما هي وفق معايير سياسية موضوعية.
(خاص "عروبة 22")